حين يخرج علينا كاتب مثل إبراهيم عيسى معلنًا عرض فيلمه “الملحد” بعد منعه سابقًا، في تحدٍ واضح لعقيدة الشعب المصري وهويته الإسلامية، فإننا لا نشهد مجرد حدث فني عابر، بل نرى أحدث فصول معركة مستمرة.

هذا الحدث ليس منعزلاً، بل هو حلقة في سلسلة طويلة ومنظمة من الاستهداف الدرامي للتدين في العالم العربي، حيث يتم تصوير المتدينين وكأنهم العدو الأول للمجتمع.
هذا الواقع يطرح سؤالاً محورياً لا يمكن تجاهله: لماذا تتركز سهام النقد الدرامي على المتدينين بشكل مستمر، بينما تُغفل قضايا الفساد الحقيقية التي تنخر في جسد المجتمع؟
الإجابة، كما سنرى، تكمن في صراع أعمق وأكثر خطورة، صراع على هوية المجتمع ومرجعيته.
وقبل الخوض في تفاصيل المعركة، من الضروري فهم السلاح المستخدم فيها، وهو صناعة الصورة النمطية. فهي أداة فعالة لتوجيه الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي دون الحاجة إلى حوار فكري مباشر لأنهم جربوا ذلك سابقًا وهزموا أمام الحجج الإسلامية.
ولو تتبعنا الدراما العربية خلال السنوات الماضية، لوجدنا منهجية متكررة في نحت صورة مشوهة عمدًا عن التدين ومظاهره:
* الرجل الملتحي يُقدَّم دائمًا كشخصية جاهلة، قاسية، إرهابية متطرفة، أو تاجر دين يستغل السذج.
* المرأة المحجبة والمنتقبة: تُصوَّر في قالب المرأة المتشددة، المختلة نفسيًا، أو المقموعة أو المنافقة.
* المؤسسات الدينية (المسجد): غالبًا ما يظهر كمكان لتفريخ التطرف والعنف.
الرسالة الضمنية التي تبثها هذه الأعمال متحدة وواضحة، وهي خلق حالة من النفور المجتمعي من أي مظهر للالتزام الديني. وتتكرر نفس اللازمة في كل عمل فني تقريبًا وبشكل مستمر كل عام حتى تترسخ في اللاوعي الجمعي:
التدين خطر… اللحية خطر… النقاب خطر.
ومقابل ذلك فإن الانحلال لا مشكلة فيه والشاب البلطجي يصبح أفضل من صاحب اللحية والمتبرجة العارية أهون من المنتقبة والمحجبة.
الدين هو الخطر الحقيقي عندهم وهم بلا شك ينتقدون الدين في تصرفات المسلمين لأن انتقاد القرآن والإسلام بشكل فج ومباشر،سوف يعرضهم لمشكلات وسينفر الناس منهم.
وبينما يتم استنفار كل الطاقات الفنية والإعلامية لمواجهة هذا الخطر المزعوم، تُترك قضايا أخرى أكثر خطورة وفتكًا بالمجتمع في الظل وإذا قدمت في عمل نرى كيف تعرض بشكل جميل.
فهل المشكلة فعلًا في «التدين»، أم أن هناك من يخشى «عودة الوعي» إلى الناس؟
هل الخوف من لحية شاب ملتزم، أم من قيمٍ تعيد للناس توازنهم وربّانيتهم؟
أين الدراما من الفساد الحقيقي؟
وهنا يتجلى التناقض الصارخ الذي يكشف حقيقة المعركة. ففي مقابل التركيز الإعلامي المحموم على “خطر التدين”، نجد صمتًا مطبقًا وتجاهلاً تامًا لظواهر الفساد الحقيقية والمدمرة التي يعاني منها المجتمع يوميًا. إن الدراما التي تدعي أنها مرآة الواقع، تغض الطرف عن قضايا تهز المجتمع هزًا، ومنها:
* الفساد الأخلاقي المعلن: أين المسلسل الذي يناقش دياثة بعض الفنانين الذين يتركون زوجاتهم في أحضان الرجال بحجة الفن؟ أو المخرج الذي يفاخر بأنه لا يمانع أن تمثل ابنته في أحضان الرجال؟
أين الأعمال التي تتناول ظاهرة تطبيع العري التي غزت الشاشات والمؤتمرات؟ أو التي تكشف فضائح الترويج للمساكنة والشذوذ من بعض الشخصيات الفنية؟
لماذا لا تُنتَج مسلسلات عن الحكام الظلمة المفسدين أو الوزراء المرتشين، والمحافظين الخائنين، والنواب الذين يتاجرون بأصوات الناس؟
أين الدراما التي تكشف الظلم الواقع على المستضعفين بدلاً من تشويه الفئات الأكثر التزامًا بدينها؟
أين مسلسل فضائح المخرج خالد يوسف التي هزت الرأي العام؟
أين الأعمال التي تتناول قصصًا حقيقية على أرض الواقع تعالج مشكلات المجتمع الحقيقية؟
كيف يتم تمجيد الراقصة وتقديمها كأم مثالية، أو تحويل البلطجي إلى سفير للنوايا الحسنة؟
كل هذا الفساد الحقيقي ينام في سلام، لا يزعجه سيناريو ولا يكدره حوار.
لكن ما إن تظهر لحية على الشاشة، حتى تقوم قيامة الدراما، وتُشهر كل أسلحتها، وكأنها قد عثرت على أصل كل خطيئة.
إن هذا الاستهداف المتكرر لمظاهر التدين ليس مجرد سخرية سطحية من هيئة خارجية، بل يخفي وراءه صراعًا أيديولوجيًا عميقًا حول المرجعية التي يجب أن تحكم المجتمع.
اللحية هنا ليست مجرد شعر على الوجه، بل هي رمز لمعانٍ أعمق وأكثر إزعاجًا للقوى التي تسعى إلى تفكيك ثوابت المجتمع:
إنها رمز للالتزام بمنهج ديني له أصوله وقواعده.
إنها رمز للضمير الذي يحتكم إلى مرجعية عليا هي شرع الله.
إنها رمز لمعنى ألا يكون الإنسان صفرًا أمام رغبات السلطة والإعلام والسوق.
هذه المعاني تحديدًا هي التي تُقلق من يريد مجتمعًا بلا قيم، بلا حصانة، وبلا ثوابت، مجتمعًا سائلًا يسهل تشكيله وتوجيهه حسب الأهواء والمصالح.
هذا القلق الداخلي هو ما وصفه القرآن الكريم بدقة مذهلة، كاشفًا كيف أن ثقتهم الظاهرية تخفي هشاشة داخلية وريبة من كل رمز للسلطة الأخلاقية: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ، إلى أن قال سبحانه: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾. إن الاستهزاء بحملة الدين في حقيقته ليس إلا استهزاءً بالدين نفسه، فالقرآن يوضح أن السخرية من رموز الدين هي سخرية من جوهره، مما يجعل الفعل أبعد ما يكون عن النقد الفني البريء: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾.
إن الهدف النهائي لهذه الحملات الإعلامية ليس مجرد التسلية، بل هو مشروع هندسة اجتماعية متكامل يهدف إلى صناعة وعيٍ زائف.
عبر تشويه النموذج المصلح أو الشاب الملتزم، أو المرأة المحجبة والمنتقبة، لخلق حالة من انعدام الثقة بين المجتمع ومرجعياته الدينية الأصيلة وبين أفراد المجتمع الواحد وكل هذا لمصلحة أعداء الأمة الذين يمولون مثل هذه الأعمال ويفرحون بها.
وعندما يفقد الناس ثقتهم في رموز دينهم، فإنهم يفقدون الثقة في الدين نفسه. وهنا يكمن الخطر الأكبر: حين تُهدم القدوات يُهدم معها الدين في قلوب الناس.
لقد جاء نبينا محمد ﷺ برسالة عظيمة لخصها في قوله: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق». فإذا أصبح صاحب الأخلاق والقيم هدفًا للهجوم والسخرية بسبب مظهره والتزامه الديني، فمن يبقى قدوة للناس يهتدون به؟
في نهاية المطاف، نحن لسنا أمام فيلم أو مسلسل بريء، بل أمام توجه ممنهج ومدروس يهدف إلى إعادة تشكيل هوية المجتمع بعيدًا عن قيمه الإسلامية الراسخة.
ولهذا السبب تحديدًا، لا تقترب الدراما من الفساد الحقيقي، لأنها ببساطة جزء من المنظومة التي تستفيد من غياب المرجعية الدينية والأخلاقية.
لكن رغم كل هذه الحملات، يبقى أصحاب اللحى والمنتقبات هم الوجه الطبيعي للمجتمع المسلم، والامتداد الحيّ لقرون من التدين والاستقامة.
لن تتمكن شاشة أو فيلم من محو هوية متجذرة في أعماق التاريخ والوجدان.
ويبقى قول الله تعالى هو الحكم الفصل في هذه المعركة:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾

