تبدأ حكايتنا بتهمة زائفة يوجهها زوراً وبهتاناً فريقٌ من الأدوات المموّلة والمجنّدة لخدمة أجندات خارجية معادية، يصفون بها علماء الأمة ودعاتها المخلصين: تهمة “الكهنوت الديني”.
وما هذه التهمة إلا حيلة قديمة، ومحاولة يائسة لـرمي الخصوم بما ليس فيهم، تهدف إلى صرف الناس عن مصادر علمهم الشرعي الموثوقة وبث الشك بينهم وبين ورثة الأنبياء.
لكن الحقيقة الساطعة التي يجب أن تقال بحسمٍ وقوة هي أن مصطلح “الكهنوت” غريبٌ تماماً عن قاموس الإسلام وعقيدته.
فالعلاقة بين المسلم وربه مباشرة لا تحتاج إلى وسيط، والإسلام لا يعرف سلطة مفوضة تحلل وتحرم بغير نص سماوي واضح.
وأما في المفهوم الكهنوتي فإن الواسطة ضرورية والكاهن يملك سلطة التحليل والتحريم.
ولكن بدلاً من الغرق في جدال المصطلحات، دعونا ندع الواقع يروي حكايته، حكاية التضييق الممنهج الذي يفضح زيف هذا الادعاء، ويكشف من هو المُحاصِر ومن هو المُحاصَر حقاً.
إن قصة الدعوة في عصرنا هي دراما مؤلمة، تتنقل بين فصول متتالية من الحصار المتزايد، كل فصل أضيق من الذي سبقه.
في البدء، كانت للمسلمين دولة تحكم بشرع الله، حيث كان الدين هو المصدر الوحيد لكل القوانين والتشريعات في جميع مناحي الحياة.
ولكن ما لبثت أن تمّت “علمنة” هذه الدولة، وفي خضم هذا التغيير الجذري، حُصرَ الدين عن عمدٍ وقصد في زاوية ضيقة هي المسجد، وكأنّ الإسلام مجردُ طقوسٍ تُؤدّى ولا شأن له بالحياة.
كل هذا حدث تحت دعوى العلمانية التي تزعم أنها تفصل الدين عن الدولة ولا تتدخل فيه، وهي أول من تدخّل ليفرض هذا الحصار.
في محاولة للتكيف مع هذا الواقع الجديد، انتقل الجهد الإسلامي والدعوة بشكل طبيعي إلى المسجد، ليكون هو الحصن والمنبر.
لكن هذا الملجأ الأخير لم يسلم من التضييق. سرعان ما كُتِمت الأصوات في المساجد، وقُيّدت الخطب والمواعظ، ووُضع كل واعظ تحت رقابة صارمة، ورُسمت له حدود لا يتجاوزها، وكأن الكلمة الحرة أصبحت جريمة يُعاقب عليها.
مع تضييق الخناق على المساجد، بحثت الدعوة عن نافذة جديدة تصل من خلالها إلى بيوت الناس، فكانت الفضائيات هي تلك النافذة.
لكنهم لم يتركوها وشأنها. أُغلقت القنوات الفضائية التي كانت تدعو إلى فهمٍ واسع للدين يرتبط بالواقع ويسعى للتغيير، وليس ذلك “الفهم الساذج للدراويش” الذي يرتضونه، والذي لا يغادر عتبة الشعائر الفردية.
بعد إغلاق نوافذ الفضاء، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي الملاذ الأخير للدعوة والكلمة الحرة. لكن يد التضييق لاحقتها إلى هناك أيضاً. ما زلنا نشهد اليوم كيف يُضيَّق على الفيديوهات في يوتيوب، وتُحجَب المنشورات على فيسبوك وموقع تويتر. إنها رحلةٌ مُستمرة من ضيقٍ إلى أضيق!
وهكذا، بعد أن تتبعنا رحلة الحصار هذه خطوة بخطوة، تتجلى أمامنا مفارقة صارخة تقلب الطاولة على أصحاب الادعاء.
بعد كل هذا التضييق الممنهج، وهذا الحصار الخانق الذي طال كل منبر، يخرجون ليقولوا بوقاحة: “الكهنوت الديني يسيطر على الواقع”؟ إنها محاولة فاشلة لقلب الطاولة، فالمُسيطر هو من يُغلق المنابر، والمُضَيِّق هو من يُلاحق الكلمة الحرة. أما علماء الإسلام الحقيقيون، فما هم إلا مجموعةٌ مُحاصرةٌ ومُجاهدةٌ، تعمل تحت القصف المستمر والتضييق المستمر.
لنرَ الحقيقة بوضوح من خلال هذه المقارنة الصارخة بين ادعائهم والواقع المرير:
الادعاء الزائف: الكهنوت الديني يسيطر على كل شيء.
الحقيقة على أرض الواقع: الدعوة محاصرة في أضيق المساحات.
الادعاء الزائف: العلماء والدعاة يضيقون على الآخرين.
الحقيقة على أرض الواقع: العلماء والدعاة هم من يُلاحَقون ويُمنعون ويُقيَّد صوتهم.
الادعاء الزائف: الكهنوت الديني يسيطر على الواقع ويضيق على المتزندقين مساحات التعبير!”
الحقيقة على أرض الواقع: أصحاب الادعاء يسيطرون على الإعلام ويملكون الدعم المطلق.
إن الحجة القاصمة تكمن في سؤال بسيط لا يمكنهم الإجابة عليه بصدق: “من الذي يُمنع صوته ومن الذي يُرفع؟ من الذي يُحاسَب على كلمةٍ، ومن الذي يُنفق عليه ليقول ما يشاء؟”
إن ترويج فكرة “الكهنوت” ليس مجرد اتهام عابر، بل هو دعايةٌ مُغرضة وحجّةٌ داحضةٌ، هدفها الأوحد هو إبعاد المسلمين عن علمائهم، ليتبعوا بعد ذلك الجهّال الذين يُحرِّفون مفاهيم الإسلام، ويُقدمون نسخةً مشوهةً منه تلائم أهواء المستعمر وخططه.
لذلك، فإن الواجب علينا اليوم يتلخص في وصايا ثلاث:
أولاً: اعتصموا بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم السلف الصالح والتفوا حول علمائكم الأثبات فهم صمام الأمان في وجه هذه الهجمة الشرسة.
ثانيًا: تجاهلوا ضجيج الأبواق المأجورة التي لا همَّ لها إلا تفكيك الأمة وإضعافها من الداخل.
ثالثًا: لا تسمحوا لهم بسرقة عقول أبنائكم وتقديم نسخة مشوهة من الإسلام لا علاقة لها بالدين الذي أنزله الله.
إنَّ قوة هذه الأمة تكمن في وحدتها والتزامها بفهم سلفنا الصالح، لا في ترهات “التنوير” المزعوم.

