لم تكن المعركةُ- يوماً- معركةَ سلفيةٍ أو صوفيةٍ أو أشعرية؟!
بل كانت- منذ الأزل- معركةَ توحيد!!
وليس التوحيد أن تعرف أسماء الله وصفاتِه حَسْبْ..
بل عماد التوحيد أن تُفْرِدَهُ بالعبادة.
وليست العبادة أن تصوم وتصلي حَسْب..
بل عماد العبادة ألا تُشرك- في عبادته- غَيرَه .
وليس الشرك أن تسجد لصنم حَسْب..
بل أكبر الشرك أن تعتقد منهجاً يُعبِّدُ الناسَ للناسِ بدلاً من تعبيد الناس لرب الناس!!
وما أفردَ اللهَ بالعبادةِ من اتخذ مع شَرْعِهِ شَرْعَاً، أو مَعَهُ- سبحانه- مُشرِّعاً.
وقد قرن اللهُ الحكمَ بالعبادةِ حين قال:” إنِ الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه”.. فمن صرف شيئاً من الحكم لغيره فكأنما صرف شيئاً من العبادة لغيره.. يستوي في ذلك من نَصَبَ في معبده صنماً اعتقده؛ فسجد له.. ومن نصب في (برلمانه) قانوناً فرنسياً أو ياسقاً تترياً اعتقده؛ فحكم به.. كلا الرجلين عَبَدَ غير معبود حين قصد غير مقصود.. والحكم في برلمانٍ بغير ما أنزل الله كالسجود في معبد لغير وجه الله.. لا فرق بينهما إلا كالفرق بين الحَرَقِ والغَرق!!
ومنذ رفع الشيطانُ رأسَه أمام ربه قائلاً:”لأتخذن من عبادكَ نصيباً مفروضا”.. بدأت المعركة.. فمن اتخذ سبيلاً غير سبيل الله صار- في معركة التوحيد- فرضاً للشيطان ونصيبا، وإن ظن نفسَه ولياً للرحمن وحبيبا!!
تكمن الكارثة في الانحراف الأول!!
والانحراف الأول يأتيك دائماً مغلفاً بمصلحةٍ دينيةٍ أو دنيوية.. بل ويُسَوّقُ لكَ- عادةً- على أنه درع يحمي المنهجَ من السقوط والذوبان. ومع تتابع الأزمنة وتناسل الأجيال.. تتناقص المصلحة شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى بين يدي الجيل الأخير سوى الانحراف خالصاً!!
ذهبَ عمرو بنُ لُحَي الخزاعي إلى الشام؛ فرأى الأصنام؛ فأعجبته؛ فجلبها معه إلى مكة.. كم جيلاً احتاجته الأصنامُ لتصبح أمراً واقعاً لا يعترض عليه العرب، ثم عقيدةً راسخةً يقاتلون في سبيلها؟!
هل قاوم المكيون- آنذاك- دعوةَ الشرك كما قاوموا- بعد ذلك- دعوةَ التوحيد؟!
كيف تسرب إلى عقل العاقل أن الحجرَ الأصَمَّ يمكن أن يصبح رَبَّاً، والبقرةَ العجماء يمكن أن تصبح إلهاً؟!
تلك اللحظة المجنونة العاقلة أو العاقلة المجنونة.. كيف نرصد حركتها في العقل وتموجاتها في الروح؛ لنعرف متى وكيف ولماذا يُقنع العاقلُ نفسَه بغير المعقول؟!
لم يجد العرب سبباً يعقلون به ما لا يُعقل سوى أن يقولوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى!!
هكذا يتفلسف السامريُّ عادةً!!
هو لا يأتيك- ابتداءً- بالكفر العاري؛ بل يأتيك بالكفرِ مستوراً بضغثٍ من الإيمان!!
شيءٌ ما يحدث في عقله؛ فيظن نفسَه الأحكم والأفضل.. تماماً كما حدث مع الشيطان:”أنا خير منه”.. يكمن في كل سامريّ شيطان.. إنه يرى ما لا يرى الآخرون:”بصرتُ بما لم يبصروا به”.. فيقبض قبضةً من أثر مقدّسِك، ثم يُخرج لك مقدساً جديداً مُغلّفاً ببعض مقدسك الأصلي؛ فيسحر عينيك ويخدعك عن نفسك؛ لتسيطرَ عليكَ- بعد ذلك- ذاتُ اللحظة التي سيطرت عليه (تلك المجنونة العاقلة أو العاقلة المجنونة)؛ ليصبح المعقولُ في عقلك غيرَ معقول، وغيرُ المعقولِ في عقلكَ معقولاً.. ثم تكتشف- بعد فوات الأوان- أنه لا فرق بينك وبين السامريّ الأول سوى أن لحظتَه أصابته قبل أن تصيبَكَ لحظتُك.. وإذ أنت سامريٌّ كاملٌ مع نصف شيطان!!
هكذا تبدأ الأشياء!!
فكرةٌ تنبت في رأس سامريٍّ من أكابر مجرميها، يتلقفها العامة والغوغاء، ثم تتجذر في التربة تَجَذُّرَ العامة والغوغاء (ولا جذر أثبتَ منهم!!) حتى إذا جاء من يُذكِّرهم بالأصل الذي طال عليه الأمد؛ قالوا: إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون”!!
قد يتجسد الشيطان في فَردٍ أو أمة، كما يتجسد في فكرة أو منهج!!
وقد يظهر لك في الإيمان المشوب كما يظهر في الكفر المحض!!
وقد يخطر أمامك في جبة صوفي يتمايل في حضرة، أو عمامة أشعري يتفلسف في حلقة، أو لحية سلفي يُحَدِّث في محراب!!
والطامة الكبرى أن يتراءى لغيركَ فيك، كما يتراءى لكَ في غيرك؛ فيراكَ الآخرون شيطاناً وتراهم أنت شياطين.
في الفيلم الأمريكي(الآخرون)- وعلى مدار تسعين دقيقة- كانت البطلة تحارب الأشباح حِفاظاً على بيتها وأسرتها.. في الدقائق العشر الأخيرة اكتشفنا- واكتشفت البطلة- أنها وأبناءها وخدمها ليسوا سوى أشباح، وأن أولئك الذين يصارعونهم هم البشر الحقيقيون.. وأنها- في لحظة ذهان حادة في حياتها الحقيقية- خنقت أطفالها- حِفاظاً عليهم- ثم قتلت نفسها!!
ما حدث للأمة الإسلامية قريبٌ من هذا.. حالة (تيه ذهاني) أو (ذهان تيهي) سيطرت عليها منذ ما يزيد على مائتي سنة؛ فخنقت أبناءَها، ثم تحولت إلى شبحٍ تحارب ما تظنه شبحاً!!
ضَرَبَنَا أخطبوطُ السامرية العلمانية بأذرعه المتعددة : قومية، وطنية، ديمقراطية، ليبرالية.. وكان مع كل ذراعٍ سامريّ يؤزه الشيطان لينثر عليه وحوله قبضةً من أثر الرسول فيسحر أعين الناس ويسترهبهم!!
قَبَضَ سامريٌّ (قوميٌّ) قبضةً من أثر الرسول منطلقاً من قوله تعالى:” كنتم خير أمة أُخرجت للناس” ” وكذلك أنزلناه حكماً عربيا”.. ثم انتهى به الحال إلى قول الشاعر:
آمنتُ بالبعث رَبّاً لا شريك له
وبالعروبة ديناً ما له ثاني!!
وقبض سامريٌّ (وطني) قبضةً من أثر الرسول منطلقاً من قوله صلى الله عليه وسلم عن وطنه مكة:” إنكَ لأَحَبُّ بِلادِ اللَّه إِلَيَّ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِليَّ ولولا أَنِّي أُخرِجتُ مِنكِ مَا خَرَجتُ”.. ثم انتهى به الحال إلى:” أخرجوهم من قريتكم إنهم أناسٌ يتطهرون”!!
وقبض سامري (ديمقراطي) قبضةً من أثر الرسول منطلقاً من قوله تعالى :” وأمرهم شورى بينهم” ثم انتهى به الحال إلى:” ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”!!
وقبض سامري (ليبرالي) قبضة من أثر الرسول منطلقاً من قوله تعالى:”لا إكراه في الدين” “لستَ عليهم بمسيطر” “وما أنت عليهم بجبار”.. ثم انتهى به الحال إلى:” لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا”!
وإذِ الأسماء لا مسميات لها، والمصطلحات لا معاني لها.. وإذ القومي سامري يحارب دينه، والوطني سامري يحارب قوميته، والديمقراطي سامري يحارب وطنه، والليبرالي سامري يحارب الحرية.. واتحد النقيض مع نقيضه لضرب مثيله؛ فصرنا نرى قومياً عروبياً يتحد مع فارسي أو عبري لضرب مثيله العروبي.. وإسلامياً أصولياً يتحد مع الصليبي والقومي والديمقراطي لضرب مثيله الإسلامي.. وديمقراطياً ليبرالياً يتحد مع أعتى الدكتاتوريات العسكرية والقبلية لضرب الجميع!!
ولم يسلم الإسلامُ ذاته من السامرية التي تسربت إليه فأنجبت فرقاً وطوائف خرج بعضُها من دائرة الإسلام بالكلية، ثم تلاعب سامريون آخرون بما بقي داخل الدائرة؛ فحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذُكِّروا به، وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون!!
وكان أن حَصَرَ سامِريُّو السلفية وسامريو الأشعرية وسامريو الصوفية ابنَ تيمية، والعزَّ بن عبد السلام، وإبراهيمَ بن أدهم في العقيدة والكلام والزهد.. وتناسوا فيهم ما عدا ذلك.. فإذا قيل لهم إن هؤلاء الأفذاذ لم يضعوا أيديهم في يد طاغوت قط، ولم يرضخوا لمتجبر قط، ولم يداهنوا في العقيدة قط، ولم يتهاونوا في الولاء والبراء قط، ولم يتوانوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قط.. نفروا ونخروا كالحُمُر المستنفرة فرت من قسورة!!
وإذِ الأمرُ (إرجاءٌ محض) لا سلفية فيه ولا أشعرية ولا صوفية!!
تساوى الثلاثة في الأكل بالدين، والتلاعب بالعقيدة، والتمكين للمتجبرين، والمشاركة في سفك الدماء المعصومة، وتوهين أمر الأمة.. حتى قال قائل حصيف: (كنا نظنهم ثلاثةً يتصارعون فإذا هم واحدٌ يحاول تكسير مرآته)!!
فلا يشمخن أحدٌ على أحد، ولا يحتكرنَّ أحدٌ الإسلامَ دون أحد؛ فالثلاثة- رغم اختلاف أسمائهم المدّعاة- يمرحون في قِدِّ الطاغوت، ويدورون في فلك الأنظمة، ويتخبطون في صندوق النظام العالمي.. وما مَثَلُهم إلا كمثل ما رواه الزجاجي في أماليه عن تلك المرأة التي تزوجت رجلاً اسمه (حمار)؛ فحسُنَ موقعُها عندَه؛ فأرادته على تغيير اسمه؛ فقال: قد فعلت، إني تسميت (بغلاً)؛ فقالت: هو أحسن من ذاك، ولكنك بَعدُ في الاصطبل!!
علي فريد