تخيل معي هذا المشهد.. أنت تقف في ميدان مزدحم، في طوكيو، أو القاهرة، أو نيويورك.
طوفان من البشر يمر أمامك.
آلاف الوجوه تعبر مجال رؤيتك في ساعة واحدة.
تأملها جيدًا. هل رأيت وجهًا يطابق الآخر تمامًا؟
في الواقع، إنها معجزة نعيشها كل يوم حتى ألفناها وفقدنا الدهشة تجاهها.
مليارات البشر يعيشون على هذا الكوكب، ومليارات آخرون عاشوا وماتوا قبلنا، ومع ذلك، يمتلك كل واحد منهم “خريطة وجه” فريدة لا تتكرر.
بصراحة، كيف يمكن لعاقل أن يمرر هذه الحقيقة ببساطة ويعزوها إلى العشوائية أو الصدفة؟
مصنع بلا قوالب
لو نظرنا إلى أي “مصنع” بشري، سنجد أن قمة النجاح الصناعي تكمن في “التنميط” (Standardization). المصنع الذي ينتج هواتف ذكية أو سيارات، يخرج لنا ملايين النسخ المتطابقة تمامًا. القالب واحد، والنتيجة واحدة.
لكن، انظر إلى خلق الله عز وجل وصنعه العجيب.
الرحم هو المصنع. نفس العملية البيولوجية تمر بها المرأة، نفس المدة الزمنية (9 أشهر)، نفس المواد الأولية (نطفة وبويضة)، ومع ذلك، النتيجة دائمًا مختلفة ونادرًا ما تخرج متطابقة في حالات التوأم أو تشابه نادر بين شخصين!
كيف يمكن لعملية بيولوجية، لو كانت محكومة بالصدفة العمياء، أن تنتج هذا التنوع اللانهائي دون أن تقع في فخ التكرار؟
إحصائيًا، الصدفة تميل مع الوقت إلى تكرار الأنماط البسيطة، لكنها تعجز عن الحفاظ على “إبداع متجدد” لا ينضب إلى ما لا نهاية.
إن ما نراه هو دليل صارخ على وجود “إرادة” واعية، وقدرة مطلقة لا حدود لها، كسرت القوالب وجعلت كل إنسان “نسخة أصلية” غير قابلة للتقليد.
الرياضيات تقف عاجزة: لغز الاحتمالات
علميًا، يعتمد تشكل الوجه البشري على تفاعل معقد بين الجينات. لكن الأمر أعمق من مجرد جينات. هناك دراسات تشير إلى أن عدد المتغيرات الجينية المسؤولة عن ملامح الوجه وتشكيل العظام والغضاريف وتوزيع العضلات، يتيح عددًا من الاحتمالات يفوق عدد ذرات الكون!
لتقريب الصورة، تخيل فنانًا يملك 5 ألوان فقط، طُلب منه رسم 8 مليارات لوحة مختلفة تمامًا باستخدام هذه الألوان الخمسة. هذا مستحيل عمليًا. لكن الخالق سبحانه -ولله المثل الأعلى-، باستخدام نفس المكونات الأساسية (عينان، أنف، فم، جبهة)، يعيد تشكيل المسافات والزوايا والبروزات بدقة ميكرومترية ليعطينا وجهًا جديدًا في كل ولادة.
حتى التوائم المتطابقة (Identical Twins)، الذين يحملون نفس الحمض النووي تمامًا، أثبتت التكنولوجيا الحديثة وبرامج التعرف على الوجوه أن هناك فروقًا دقيقة بينهم في بصمة الوجه، ناتجة عن عوامل “فوق جينية” (Epigenetics) وظروف دقيقة جدًا داخل الرحم. هذا يعني أنه حتى عندما تتطابق “الخريطة الهندسية”، فهناك لمسة اختلاف. أليس هذا مذهلًا؟
الوجه: هوية وليس مجرد شكل
دعونا نتجاوز العلم قليلًا ونتحدث بالعقل والمنطق. لماذا هذا الاختلاف؟ ولماذا في الوجه تحديدًا؟
نحن لا نرى هذا التنوع الهائل في أيدي البشر مثلًا، أو في شكل أقدامهم. الأيدي متشابهة جدًا، وكذلك الأقدام. لكن “الوجه” هو شاشة الروح، ومحل الهوية، ووسيلة التعارف. الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾. كيف سيتحقق التعارف والمسؤولية القانونية والأخلاقية والاجتماعية لو كنا نسخًا متطابقة؟
تخيل الفوضى التي ستعم العالم لو كان هناك 100 شخص يشبهونك تمامًا في مدينتك!
ستسقط الحقوق، وتضيع الأنساب، وتعم الجريمة، وينهار النظام الاجتماعي.
إن هذا الاختلاف ليس ترفًا بيولوجيًا، بل هو ضرورة حتمية لاستقامة الحياة البشرية، صنع الله الذي أتقن كل شيء.
حجة على الملحدين
إن النظرية المادية التي تحاول تفسير الكون من خلال “التطور العشوائي” و”الطفرات غير الموجهة” تقف عاجزة أمام هذا السؤال: ما هي الفائدة التطورية للبقاء (Survival of the fittest) التي تجعل الطبيعة حريصة كل الحرص على ألا يتشابه وجهان؟
لو كان الأمر مجرد صراع من أجل البقاء، لكان من الأسهل والأوفر للطاقة بيولوجيًا أن تنتج الطبيعة نموذجًا وجهيًا واحدًا ناجحًا وتكرره (كما يحدث مع النمل أو النحل حيث يصعب التمييز بين الأفراد). لكن الإصرار البيولوجي على “التفرد” (Individuality) في البشر هو دليل قاطع على أن الغاية ليست مجرد البقاء، بل “التكريم” و”التمييز” ووجود هدف وغاية وحكمة.
الخاتمة
في النهاية، عندما تسير غدًا في الشارع، لا تنظر إلى الوجوه كأشكال عابرة. انظر إليها كرسائل. كل وجه يمر بك هو وثيقة، وبرهان حي يمشي على قدمين يصرخ في وجه العدمية قائلًا: “هناك خالق”.
إنها ليست صدفة.. الصدفة تخبط عشواء، والصدفة لا تملك ذوقًا فنيًا، ولا تراعي الفروق الدقيقة. ما نراه هو “اسم الله المصور” يتجلى في كل لحظة. إنه الإعجاز الذي نراه ولا نراه من فرط وضوحه. إن عدم تشابه البشر معجزة إلهية عظيمة تستحق الشكر.
إنها آية من آيات الله عز وجل المبهرة
قال الله تعالى: وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟
ونختم بهذه الآية العظيمة التي تتحدى كل مبطل وتخرس كل الألسنة
قال الله عز وجل: هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟

