امتلأت جميع التوابيت والمقابر والمحارق في إيطاليا، وهناك في الشرق وضع مشابه لإيران ومن قبلها كان في الصين، وعلى سباق الدالة الأسية المرعبة تتسابق الدول، إسبانيا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، رموز العالم الجديد، أقوى الدول وأغناها، تسقط تحت وطأة العجز.
أتدري ما المخيف في الأمر؟ أن الأمور لم تبدأ حتى بعد!
هل يثير هلعك عشرات آلاف الوفيات؟ ماذا حين تعلم أن الساسة والعلماء ينتظرون الملايين؟ يخبرونك أن الفيروس الجديد سوف يصيب الجميع تقريبًا وكل ما نرجوه أن ندعوك إلى أخذ الحيطة كي لا نصاب بالمرض جميعًا في وقت واحد. لا يبدو لك حلًا مرضيًا تمامًا، أليس كذلك؟ كنتَ تنتظر الإعلان عن الدواء الشافي، أو حرارة الصيف التي سوف تطهر الكوكب، أو الأخبار المفاجئة بانحسار سريع لنشاطه بدون سبب.
سوف تفكر في الهرب، ولكن إلى أي مكان تهرب؟ إلى أية دولة تفر؟ الكرة الأرضية كلها مصابة، والأمريكي يتمنى الآن لو كان أنجوليًا! الجميع محاصر وقائمة الحلول لا تعد بالكثير، وما بين عدد كارثي من الوفيات وبين انهيار اقتصادي كامل يترنح العالم ليرى أيهما يكون أسرع فتكًا به!
سوف تسارع بعد ذلك للرفض! هذا لا يحدث، الأمور ليست كما يقولون، إنهم يهوَلون، هناك مؤامرة للتخويف، يريدونك أن تصاب بالهلع، إنها حرب اقتصادية بين الصين وأمريكا، أتدري؟ ربما لا يوجد فيروس وكل هذا مفبرك من وفيات مرض آخر.
سوف تفكر بعدها في الغضب. سوف تغضب من الموانئ الجوية، سوف تغضب من الصينيين وحساء خفافيشهم، سوف تغضب من المرضى أو حتى من الموتى ومن كل من حوّل بتمثل وجوده هذا الكابوس من عالم الخيال إلى أرض الواقع.
سوف تبحث بعدها عن أمل، عن أي أمل، عن أمان زائف أو حقائق مُعدّلة، سوف تحتفي بمن يطمئنك حتى وإن كانت طمأنته ضد الأرقام، لسان حالك يقول: من يخدعني وأعطيه مالي، شريطة أن يتقن ما يفعله، شريطة أن يجيد فعلًا خداعي!
بعد أن تنفد جميع ميكانيزمات دفاعك النفسية سوف تطرق إلى الأرض بحركة خفيضة بطيئة تحمل في طياتها ألف رمز ومعنى عن نفاد الحيل وعجز الأساليب وانتفاء المهارة. إطراقة تستمر لثوانٍ معدودة وتطول في وجدانك لآلاف السنين لتخبر بكل شيء، باشتياقك إلى حياتك الوداعة المطمئنة قبل هذا الكابوس، بذكرى أحبابك الذين تخاف عليهم الفقد، بشعورك بالرعب من جراء التفرقة بينك وبينهم، وحين تصطدم عينك بتراب الأرض أخيرًا، تبدأ في فهم كل شيء!
تفهم أنك لم تأتِ هنا لتبقى إلى الأبد، أنك لم تأخذ من الله ضمانًا بالخلد والرغد، أن الله لم يخدعك حين قص عليك أنه قد خلق الإنسان في كبد، أنك لست معصومًا من الأذى، ألا مفرّ من الجَلَد.
تفهم أن ذلك الذي خلق لك أحبابك وخلقك لهم، وجعل في قلوبهم حبًا لك وفي قلبك لطفًا بهم، هو أحن وألطف منك عليهم، هم عباده وإماؤه، إنهم ينتمون له أكثر مما ينتمون لك، إنه يرأف بهم أكثر من شفقتك عليهم، ثم وعدك باللقاء الدائم غير المنقطع في نعيم من رضي واحتسب وصبر فكان له من رضا الله النصيب الأكبر.
تفهم أن الله قد اطلع علينا بقدره وحكمته، بقهره وجبروته، بعزة قدرته، وبأضعف جنود ملكوته ليعلّمنا عنه، ويذكرنا به، لا لكي نتذكر كل شيء إلاه، ونتعلق بكل سبب دونه.
تفهم أن الله بيده كل شيء، وكل حل، وكل قوة، وكل إجابة، وهو مع ذلك ودود رائف، كثير اللطائف، ما جربنا عليه إلا سترًا وما عهدنا منه إلا خيرًا. إنك إن رغبتَ في أمان ولو حتى زائف، فالأمان عند الله لا ينقطع وهو ليس بزائف.
حين تفهم كل شيء، يمتد حبل غير مرئي من السماء إلى رأسك يرفعها عن الأرض لتتمتم صادقًا: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني، اللهم إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي!
مهاب السعيد