مع هذه الموجة من التشكيك في الثوابت ، وجهل الكثيرين بأصول العقيدة ، تخيل معي لو أن الدجال قد ظهر ، وزعم أنه رب العالمين ، ودعا الناس لاتباعه، فمن أطاعه نال الثروة والغنى ، ومن عصاه أصيب بالقحط والفقر ، وتعرض للتنكيل الشديد .
من سيجرؤ وقتها على التصريح بأن الدجال كافر ؟؟
أنا أتخيل أن الأمور لو استمرت على هذا الوضع – وأسأل الله ألا يتحقق ذلك – فسوف يكون الحال قريبا مما يلي :-
1- مع مرور الوقت ستفقد ألفاظ مثل ( كافر ، وكفر ، ومشرك ، وأشرك ) معناها ودلالتها ، وستفرغ من كل قيمة عقدية ، وسوف تحذف من المناهج والكتب ، وتمنع على المنابر وفي المساجد ، كما سيجرم من يستعملها ، ويحاكم من يطلقها على أي أحد ، كائنا من كان .
وفي النهاية سيصاب الجميع بحالة فوبيا مرضية من استعمال هذا المصطلح ، لأن كل من يردده سوف يتهم بالغلو ، ويتم نبذه تماما ، وإطلاق حملات شعواء لتشويهه .
2- بعد أن كانت كتب العقيدة التي يدرسونها للطلاب ينص فيها على ” أننا لا نكفر مسلما ما لم يجحد معلوما من الضرورة ” سوف تتحول الصياغة إلى شيء جديد ومطاط هو ” لا نكفر أي إنسان قط مهما كان دينه أو معتقده ” بمعنى أن أي إنسان مهما كانت عقيدته أو دينه فسوف نقبل منه ذلك سواء أكان هندوسيا أو بوذيا أو مجوسيا أو ملحدا ، ولا يصح إزدراؤه أو الإنكار عليه ، وإلا وقعنا تحت طائلة القانون .
3 – الدجال كما ورد في صحيح مسلم يهودي ، يعني أصله من أهل الكتاب ، وقد استقر الأمر تماما على أن أهل الكتاب مؤمنون ، ولن يجرؤ أحد قط وقتها أن يقول بكفرهم بعد أن جرى ما جرى لكل من قال بذلك .
4 – تحت شعار حرية الاعتقاد ، ونسبية الحقائق ، والبحث عن المشترك الإنساني ، وتمدد الحداثة وما بعدها ، وسيلان معاني المصطلحات ، وتفكيك معانيها ، وخلوها من أي ثابت أو قطعي ، ستدخل هذه اللفظة – أي كافر – إلى متحف التاريخ ، ولن يكون لها أدنى وجود لا في المعاجم ولا في الكتب ولا في الاستخدام اليومي .وسوف تظهر أجيال لا تفهم معنى هذه الكلمة أصلا ولا تعرف ماذا يراد بها ولا ماذا يترتب عليها من أحكام قلبية وعملية .
5- لا يوجد سبب قطعي لكفر الدجال ، فلا أحد شق عن قلبه ليجزم بكفره ، وهو لم يصرح بجحوده وإنكاره لوجود الله ، كما أن ادعاءه بأنه الله يمكن أن يحمل على المجاز والتأويل ، أو هو نوع من التوحد بالله والذوبان عشقا فيه ، وبعض الصوفية قديما خرجت منه شطحات وقال أنا الحق كما قال آخر ما في الجبة إلا الله ، وباب اللغة واسع لا قعر له ، واللفظة إذا احتملت تسعة وتسعة بابا للكفر وبابا واحدا لضده فلا يصح أن نتسرع بالحكم عليه .
6- أحاديث البخاري ومسلم التي ورد فيها التحذير من الدجال سيتم إطلاق حملات تشكيك واسعة فيها وفي السنة عموما ، وسيخرج من يوصفون بالباحثين التنويريين لتحذير الناس من تصديق تلك الكتب المليئة بالخرافة ، وما لا يمكن تصديقه ، وستخرج نسخ جديدة منقحة من تلك الكتب تشتمل فقط على أحاديث الأخلاق والتسامح وقيم العمل والإتقان وحب الأوطان .
7- أما خطب الجمعة فقد صارت خطبا موحدة منذ سنين طويلة تتكلم فقط عن أهمية النظافة ، والصبر على الغلاء من أجل الوطن ، وحب الزعماء ، والتضحية من أجلهم ، ولن يرد للدجال ذكر قط في أي مسجد أو في أي خطبة جمعة ، ومن سيذكره سيفصل فورا لمخالفته للخطبة الموحدة .
8- التكفير لن يكون إلا بحكم قضائي ، وسوف تصدر قوانين بتجريم إطلاق هذا اللفظ على أي شخص كائنا من كان ، وستخصص دائرة معينة للحكم في هذه القضايا يختار رئيسها بعناية فائقة لحساسية منصبه ، فضلا عن أنه لن يوجد وقتها من يستطيع أن يرفع دعوى ضد الدجال شخصيا ، مع كل هذا النفوذ ، والمال والسلطة ، والانتشار في كل بقاع العالم ، إنه أقوى من أمريكا وروسيا والصين ، ولا يمكن لأحد أن يواجهه وإلا قتل ، وهل تتصور وجود قاض يمكن أن يحكم عليه بالكفر .
9- أما المؤسسات الدينية على اختلاف أنواعها فقد استقر الأمر على أنها ليست منوطة مطلقا بالحكم بالكفر على أي أحد من الناس ، وهذا الأمر متروك لعلاقة الإنسان بربه ، فضلا عن أن باب الكفر والتكفير تم حذفه نهائيا من جميع المناهج الدينية ، وفصل كل من يثبت عليه استخدامه أو ترديده .
10- سوف تشكل محكمة دولية على غرار المحكمة الجنائية الدولية تتعقب كل من يصفون الدجال بالكفر ، وسوف يحاكمون بتهمة التشهير والإساءة للمعتقدات الدينية ، فضلا عن أن وسائل الإعلام العالمي سوف تبتكر مصطلحا جديدا على غرار معاداة السامية اسمه معاداة الدجالية ، وكل من يضبط متلبسا به سوف يسجن في معسكر تحت رعاية الحكومة العالمية .
11- ما الذي ستخسره الشعوب من اتباع الدجال ؟ إن من يؤمن به سوف تحل كل مشاكله الاقتصادية ، فلا بطالة ولا تضخم ولا كساد ، ولا عجز في الموازنة ، بل رخاء اقتصادي ، وإخراج الأرض لكنوزها جميعا ، بينما مخالفته تؤدي إلى الضنك والمجاعة ، ولذلك سوف تخرج حملات إعلامية هائلة تبشر بالمستقبل المشرق مع الدجال ، وتدعو الجماهير للخروج إلى الميادين لتأييده ، ودعوته للتخلص من كل أعداء الوطن ، ومعطلي مسيرة الازدهار والتقدم ، ولن يجرؤ أحد ساعتها على مقاومة هذا المد الشعبي الكاسح .
12 – سوف يحدثنا علماء السوء حينئذ عن الضرورات التي تبيح المحظورات ، وعن فقه المصالح ، ومقاصد الشريعة ، وتجديد الخطاب الديني ، وعن أن من العبث الكلام عن قضايا متخلفة كالكفر والتكفير أمام عقلية اقتصادية مبهرة كعقلية الدجال ، ستنفع البشرية ، وتطعم البطون الجائعة ، وتحقق الرخاء .
وسوف يقول لنا آخرون : دعوا الخلق للخالق ، ولا تنهشوا في لحوم الناس ، وربما كان هذا الذي تكفرونه أقرب إلى الله منكم ، وهل عرفتم أصلا ما الذي سيموت عليه ، ومن أدراكم أنه لن يتوب ، و بدلا من الحكم على الدجال بالكفر ادعوا له بالهداية أو حاولوا نصحه ودعكم من هذا التنطع ، ولا تكونوا سببا في كراهية الناس للإسلام ، وحاولوا تقديم صورة متسامحة تقبل الآخر وتستوعبه لأن تكفير الدجال سيخوف العالم منكم وسيجعل الكثيرين يلحدون .
كما سيقول لنا آخرون : أيها الجامدون المتخلفون الأصوليون الجاهلون بحقيقة الإسلام الوسطي التنويري الجميل : أيها أنفع للبشرية ، مخترعات الدجال واكتشافاته الهائلة لكنوز الأرض ، أم جدلكم العقيم في قضايا بائدة مثل الإيمان والكفر . وهل الدجال أنفع للإنسانية أم فقهاؤكم المتخلفون ومشايخكم الجامدون ؟ الدجال يقدم رخاء وثروة ، وأنتم تقدمون خطاب كراهية وإقصاء ونبذ للآخر .
نحن لا يهمنا أصلا عقيدة الدجال ولا دينه ، ولا هل هو مؤمن أو كافر ، فالله الذي سوف يحاسبه عليها في الآخرة ، ومسألة الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه ، والجنة والنار ليست ملكا لنا ، وإنما الذي يهمنا فقط ماذا سيقدم الدجال للوطن والبشرية كلها من رخاء وتقدم وازدهار وقضاء تام على كل المشكلات الاقتصادية.
وأخيرا وبعد قراءة ما تقدم : هل تظنني هازلا أو متشاءما أو سوادويا ؟
كلا بل أنا خائف على أمتي ، وعلى أجيال قادمة من تجريف كل ثوابتها ، فيا عباد الله علموا أولادكم العقيدة ، وعرفوهم بحقائق الإيمان ، وثوابت الدين والملة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
أحمد قوشتي