أَرَادُوا أنْ يُوثِقُوهُ فَعَقَلَهُم، وأنْ يُثْبِتُوهُ فَعَقَرَهُمْ!!
ومَا كَفرَ الرجلُ بمبادِئِهِ وإنْ كانَ كَفَرَ بالإسلام!!
ومَا عَرَفُوا هُمْ حقيقةَ الإسلامِ وإنْ كانوا ادعوا مَعْرِفَتَه!!
تَذَاكَوا عليه؛ فَمَكَرَ بِهِم.. ثم كانَ عاقبةُ تَذَاكِيهِم أنْ” أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم”!!
قالوا: نريدها ديمقراطية؛ فَأَعطَاهُمُوهَا.. وحين فتحوا صندوقَها وجدوا كفراً محضاً عندهم من الله فيه برهان.. فلما سُقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا تململوا ساعةً على مثل حسك السِّعدانِ وحَزِّ الخناجر، ثم نُكِسُوا على رؤوسهم بالوسطية، والحديبية، وفقه الواقع، ومقاصد الشريعة.. “وحسبوا ألا تكون فتنةٌ فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثيرٌ منهم”!!
***
مَا خَرَجَ سبسي تونس عن الديمقراطية قَيدَ أُنمُلَة؛ فلماذا تُكَفِّرونَه وأنتم من طَلَبَهَا؟!
إِنْ كانَ طَبَّقَ ما لا تقصدون؛ فقد نَظَّرتُم أنتم لِمَا لا تفقهون!!
ظننتموها شورى؟!
كيف وليس فيها من الإسلام حبةُ خردل؟!
كيف ومَركَزُها العبدُ لا الرب؟!
كيف وشرعُها ما يُريدُ البشرُ لا ما يُريدُ ربُّ البشر؟!
لقد صَدَقُ الرجلُ ديمقراطياً حين قال: الدستور هو المرجع والحاكم والسلطة العليا في سَنِّ القوانين”.. وصدق ديمقراطياً حين قال: تونس دولة مدنية، والقول بمرجعيتها الدينية خطأ؛ بل خطأ فاحش”.. وصدق ديمقراطياً حين قال: “لا علاقة لنا بالدين ولا بالقرآن ولا بالآيات القرآنية”!!
لقد أنصفكم هذا المسخ كما أنصف الديمقراطية، بيد أنكم أتْبَعتم أنفسكم هواها وتمنيتم على الله الأماني!!
هذه هي الديمقراطية.. “حُكمُ الشعبِ للشعبِ بما يختاره الشعب”.. لا مكان للدين فيها ولا مركزية لله معها.. فإذا حَزَبَكُم التذاكي فقلتم:” فيما لا يخالف شرع الله”؛ صِرتُم كالتاجر الكذاب الذي أراد أن يُسَوِّق بضاعته من الأسماك في بلاد المسلمين فكتب عليها:” ذُبحت حسب الشريعة الإسلامية”؛ فما زاد على أن دَلَّ الناسَ على غِشِّهِ فيما يُذبَح لِكَذِبِهِ فيما لا يُذبَح!!
*****
إنَّ وَهْمَ التوافق مع العلمانيين الكفار سيوصلكم إلى الكفر ولن يوصلَهم إلى الإسلام، وَهُمْ ليسوا أكثر من (حصان طراودة) في بلاد المسلمين؛ لا يعرفون مما تعرفون معروفاً، ولا يُنكرون مما تنكرون منكراً، والعربُ منهم خاصةً أَشَدُّ أنواعِ المرضى النفسيين دكتاتوريةً وطغياناً؛ ليس لكم عندهم سوى القهر والجبر، وليس للأجنبي عندهم سوى الولاء والتبعية.. وكم سَمِعْنَا وقَرَأنَا لهم قديماً- حين نجح الإسلاميون في مصر بالانتخابات- مقالاتٍ وأحاديثَ عن أنَّ النجاح في الانتخابات لا يعني تغيير هُويةِ الشعوب بالقوة، أو صَبَغَ البلاد بصبغة دينية.. وهَاهُم الآن يُصفقون للدكتاتورية الديمقراطية الكُفرية التي تريد أن تُغيِّر هُويةَ الشعبِ المسلم في تونس وتفرض عليه الكفر المحض!!
إذا كانت الديكتاتوريةُ بَحراً فالعلمانيون أَسْمَاكُه؛ إن خَرَجُوا منه مَاتوا!!
وَهُمْ في موضوع المواريث هذا نوعان تعود كل أنواعهم إليهما: فنوعٌ يُصَرِّحُ بترحيبه وموافقته على هذا الكفر وَتَمَنِّيهِ أن يَعُمَّ بلادَ المسلمين كلها بلا مواربة ولا لجلجلة.. وهذا النوع يجب على المسلمين أن يُصرحوا بكفره بلا مواربةٍ ولا لجلجه.
ونوعٌ آخر لا يستطيع التصريح بالموافقة؛ وإنما يستهبل ويتغابى ويتمايع ويلف ويدور فيقول:”لو وَجَدتُ أني أخذتُ أكثر من أختي فسأعطيها من حقي حتى نتساوى معاً؛ لأن المساواة عدل يحبه الله ويرضاه، والمحاباة ظلم يبغضه الله ويأباه ولو أرادت زيادةً سأعطيها عن طيب خاطر”.. وهذا كلام لا أجد له مصطلحاً يُعَبِّرُ عنه سوى مصطلح (الكفر المخنث)، وصاحب هذا الكفر المخنث حقه أن (يُطَبْطَبَ) على كتفه ويُفَهَّمَ بهدوء أن (العبطَ) الذي يتفوه به ليس مناطاً لشيءٍ يعقله الناس، وأنَّ الظلم الذي يقع على المرأة في المجتمعات المسلمة مَرَدُّهُ إلى بُعدِ هذه المجتمعات عن الإسلام لا قربها منه، وأن الإسلام يُحِبُّ أختَه أكثرَ مما يحبها هو حين أوجبَ عليه أن يَكفلها طائعاً أو مكرهاً؛ وإلا كان مسلماً آثماً أو رجلاً بلا رجولة!!
إن العلمانيين- عموماً- لا يُنَاقَشُون.. اللهم إلا حرصاً على المسلم الذي يقرأ لهم أن يضل بضلالهم، وإلا فإن العلمانيين- غالباً- كائناتٌ هشةٌ ثقافياً ومعرفياً لا تستطيع أن تسير معهم في نقاش متسق بعضُه مع بعضه، أو تؤصل معهم لأصلٍ لا يُسقطونه أو يخالفونه حين يُعوزهم العلمُ وتخونهم المعرفة.. وهُم لم تَعْلُ راياتهم في بلاد الإسلام إلا في ظل البيادة العسكرية المستظلة بالدبابة الغربية!!
ما يريده العلمانيون العرب في بلاد الإسلام هو عين ما فعله العلمانيون الأوربيون قديماً في بلاد النصرانية، وليست دعوات التجديد التي ينهق بها أصحابُها الآن سوى محاولاتٍ باطنية لسلخ الإسلام عن القرآن كما سلخ الغربيون النصرانية عن الإنجيل ليصير المسلمون مسلمين بلا قرآن كما صار النصارى نصارى بلا إنجيل، ثم يجمعون بعد ذلك مجموعةً من (الأخلاق الإسلامية!!) ليجعلوها معياراً إسلامياً يتعايشون به بعيداً عن (مركزية الله) وإعلاءً لـ(مركزية الإنسان)!!
لقد كان التصور النصراني الأول تصوراً أصيلاً عن مركزية الله في الوجود قبل تحريف النصرانية، وجَعْلُ ما يسمونه (الأخلاق المسيحية) نظاماً معيارياً عالمياً لم ينشأ مصاحباً للأصلِ النصراني الأول الذي هو التوحيد الذي جاء به عيسى عليه السلام كما جاء به الأنبياء جميعاً عليهم السلام؛ بل نَشأ بعد التحريف الذي تعرضت له النصرانية، ونشأته هذه بعد التحريف كانت محاولةً من العلمانيين أو ما سُموا بالإصلاحيين في أوروبا للخروج من سيطرة الكنيسة التي ادعت الحديث باسم الله.. فكأنَّ التدرج الذي حدث عندهم كان كالآتي: أصلٌ رباني، ثم تحريف بُولُسي، ثم سيطرة كنسية متكئةٌ على هذا التحريف، ثم خروج عن سيطرة الكنيسة إلى شيء من عَراءٍ علماني مستظلٍّ بِطرفٍ من مظلة دينية، ثم اختراع فكرة (معيارية الأخلاق المسيحية) ليتعايشوا بها بعيداً عن مرجعيتها التي ارتبطت بجبروت الكنيسة لا رحمة المسيح.
هذا- بدون تفاصيل- غالبُ ما حَدَثَ عندهم.. ولو نظرنا إلى الصورة هكذا لوجدناها تتقلب في مستنقع (مركزية الإنسان) دون أن ندري؛ لأن المعيارية الأخلاقية ليست ثابتة ثبات الأصل التوحيدي؛ فهي تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فما كان أخلاقاً اليوم ربما لا يكون كذلك غداً، وما هو أخلاقٌ هنا ربما لا يكون كذلك هناك.. ولن أضرب أمثلة على ذلك؛ فحسبنا أن نرى ونسمع تشريع زواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة في الكنيسة نفسها!!
هذا بالضبط ما يُراد عمله في الإسلام.. أن تحل مركزية الإنسان محل مركزية الله؛ فيشرع لنفسه اليوم ما يحرمه عليها غداً، ويحرم عليها غداً ما شرعه لنفسه أمس، أو لا يحرم ويحلل مطلقاً وإنما هي الرغبات والأهواء.. النصرانية ليست أخلاقها حَسْب، والإسلامُ ليس أخلاقه حَسْب.. الأخلاق لا تصلح معياراً للتعايش لأنها- بدون المُشَّرع العظيم سبحانه- تفتقد إلى شرط الثبات الذي هو أهم شرط في المعيار؛ فكيف يتحاكم الناسُ إلى معيار غير ثابت؟!
لقد أرادوا أن ينعتقوا من نير الكنيسة بتجريد الأخلاق المسيحية عن المسيحية ليسهل عليهم بعد ذلك إنقاذُ الدولة مِن جبروت الكنيسة.. فما الذي يُلجِئُنا نحن إلى هذا والإسلامُ- في هذه الجزئية تحديداً- أراحنا من عنائها فجاء جاهزاً بلا سلطة دينية كسلطة الكنيسة، وبلا كهنوت أو رهبانيةٍ أو رجال دين.. ومهما حاول العلمانيون العرب أن يتهموا الإسلام بسلطة كسلطة الكنيسة فلن يُفلحوا في إثبات ذلك نظرياً من خلال القرآن والسنة.. بل إنَّ واقع تاريخ المسلمين- في العموم- كانت السُلطة فيه للشرع من خلال الفقهاء لا للفقهاء من خلال الشرع.. وحتى لو حدث ذلك تاريخياً في بعض الأحيان فما كان أسهل أن يُرفضَ أو يُعَدَّل بعد موت أصحابه أو بَعد خلخلة قبضتهم على نظام الحكم.. والغريب أنَّ هذه الحالة حين حدثت عندنا حدثت مع المعتزلة الذين يُرَوَّجُ لهم تاريخياً أنهم أكثر عقلاً وانفتاحاً وأريحية من أهل الحديث.. وَمَا سُلطةُ المعتزلة (بالمأمون) ومَنْ بَعْدَه إلا حالة كهنوتية شاذة حدثت في التاريخ الإسلامي ثم انقضت بخيرها وشرها، وضَادَّتَها حركةٌ أخرى أيام (المتوكل) فيها من الكهنوت رَدُّ فِعلٍ لا يخفى، ثم استقر الأمر بعد ذلك- غالباً- على ما درج عليه الناس.
المشكلة في تاريخنا لم تكن في تَغَوِّلِ الفقهاء على السلطة المدنية؛ بل كانت في تغول السلطة المدنية على الفقهاء!!
*****
إن الحرب ليست على المواريث، أو على ما يسمونها مدونة الأحوال الشخصية في الإسلام؛ بل هي حرب على النظام الذي يحمل هذه المدونة، على الإسلام كله، وقد بدأت منذ زمن بعيد حين زُحزح الحكم بشرع الله فلم يكد الناسُ يشعرون بإسقاط الشرع حتى وصل الأمر إلى أخص خصوصياتهم من زواج وطلاق ومواريث.
ما يحدث الآن ليس سوى نتائج لمقدماتٍ فرضتها (نظرية التدرج) التي ظننتم أنكم ستخدعون الكفار بها لتجروهم إلى الإسلام؛ فخدعوكم هم بها ليوقعوكم في الكفر.. وما ملكتم أدوات القوة لتنجحوا، وما عدموا هُم أسباب القوة ليفشلوا.. ولكنه الوهم والغيبوبة!!
إن أصحابَ النظام الغربي القائم على الديمقراطية لا تهمهم مصلحة المرأة؛ فنظامهم أشد الأنظمة بشاعة في إهانة المرأة وهضم حقوقها.. وإنما يهمهم فقط فرضُ نظامهم.. ليس هناك نظام في الدنيا لا يسعى أصحابُه لفرضه.. واتركوا عنكم وهم الحرية وتقبل الآخر والتنوع الثقافي.. هذا حديث خرافة تخدع بها الذئابُ الغنمَ قبيل افتراسها!!
لم تعرف البشريةُ نظاماً قام على مطلق العدالة كالنظام الإسلامي، وهذا النظامُ بشموله وتكامله وربانيته إما أن تأخذه كله أو تتركه كله؛ فإذا رَقَّعْتَ أصولَه بأصولِ غيره فلن تحصل عليه ولا على غيره!!
والعدالةُ في النظام الإسلامي فيما يخص المواريث لا تعني أن يحصل كلُّ أحدٍ على مثلِ ما يحصلُ عليه الآخر؛ بل تعني أن يحصل كلُّ أحدٍ على ما يستحقه حسب مناطاتٍ ثلاثة: (الطبيعة) و(الموقع) و(درجة القرابة أو رُتبتُها).. ومن كمال عدالة الإسلام في هذه المناطات أن (الطبيعة) تُهيمن على (الموقع) ولا يُهيمن الموقعُ على (دَرَجِةِ القرابة)؛ فالنظامُ الإسلامي نَظَرَ إلى طبيعتي الذكر والأنثى اللتين خلقهما الله بهما فوجدهما متباينتين تباين ائتلافٍ لا تباين اختلاف؛ فَحَدَّدَ لكلٍ منهما (مَوقِعَهُ) الذي يُناسب طبيعته؛ فكان موقعُ الأنثى دائماً موقعَ (المكفولةً المحفولةً)- بنتاً وأختاً وزوجةً وأُمَّاً-، ثم أعلى منزلتها وأكرمها عن (العمل والكد والسعي)، ثم زاد في إكرامها فجعل لها (ذمةً مالية خاصة) لا يجوز للذكر- أَبَاً وأَخَاً وزوجَاً وابنَاً- أن يغصبها إياها أو يمنعها من ممارستها، ثم زاد في حفظها فأعفاها من مطلق (الإنفاق) على أهلها وذويها، وجعل لها- بحسب حالاتها- مهراً ونفقةً وكفالة، ثم خفف عنها- تعبدياً- فأسقط عنها أبداً (وجوبَ حضورِ الجُمَعِ والجَماعاتِ والجهاد)، كما أسقط عنها أحياناً (الصوم والصلاة) مع عدم إلزامها بقضاء ما فاتها من الصلاة.. ولم يقتصر الأمر على هذا؛ بل (جعل بيتَ مالِ المسلمين أشبه بحساب بنكي لها)؛ فإن لم يوجد لها عائل يعولها ويصرف عليها ويَكِدُّ لها- مُجبراً لا مُخيَّرَاً-؛ فبيتُ مال المسلمين هو العائل لها منذ ولادتها حتى وفاتها في كل شأن من شؤون حياتها.. وكل هذا ليس من قبيل تشريفها أو تفضيلها على الذكر- وإن كان فيه تشريف لا يخفى- بل هو من قبيل نَظَرِ النظام الإسلامي إلى (موقعها) الذي حددته (طبيعتها)، والذي هو معكوس (موقع) الرجل الذي حددته (طبيعته) حين طالبته بالعمل والإنفاق والسعي والجُمع والجماعات والجهاد.. فموقع الرجل في النظام الإسلامي هو موقع المعطي مادياً لا الآخذ، وموقع المرأة في النظام الإسلامي هو موقع الآخذ مادياً لا المُعطي؛ فلا تفضيل لمطلق الذكورة، ولا تفضيل لمطلق الأنوثة؛ إنما هو (الموقع والطبيعة).. والموقع والطبيعة لا يتساويان أبداً؛ فهذا ذَكَرٌ وهذه أنثى، وبينهما من فروق الطبيعة ما لا يخفى؛ وهذه الفروق هي التي أدت إلى عدم التساوي في (الموقع)؛ فهذا موقعه التكليف بالعمل والإنفاق، وهذه موقعها أن تكون مكفولة محفولة مصانة عن العمل والإنفاق مع ذمة مالية خالصة.. فلا يمكن أن يتساويا في الموقع والطبيعة؛ وإنما التساوي يكون في درجة القرابة أو رتبة العلاقة؛ فهذا ابن المتوفَى وهذه ابنته؛ تساويا في رتبة البنوة ودرجتها؛ فلما تساويا في الرُتبة والدرجة نُظِرَ إلى الموقع الناتج عن الطبيعة؛ فأعُطي الذكر الذي هو (كَافلٌ حَافِل) فَضْلاً يُعَوِّضُ به هذه الكفالة للأنثى التي هي (مكفولة محفولة)، وأُعطيت الأنثى التي هي (مكفولة محفولة) كفايةً تحفظها إن قَصَّر (الكَافلُ الحَافل).. فالطبيعة هنا هَيْمَنَتْ على الموقع، ولم يُهَيمِنِ الموقعُ على الدرجة، ولو هَيْمَنَ الموقعُ على الدرجة لأُعطيت الأنثى- دائماً وأبداً- زيادةً على الرجل، وهذا ظلمٌ بَيِّنٌ للرجل وإخلالٌ واضح بالطبيعة؛ لأن موقع المرأة في النظام الإسلامي زائدٌ على الرجل بإعفائها من تلك التكاليف المادية والدينية وتحميلها كلها للرجل؛ ولذلك نجد النظام الإسلامي يُعطي المرأة أحياناً أكثر من الرجل لعلو موقع المرأة ابتداءً ثم لعلوها عنه بدرجة القرابة أو رتبتها، ويعطي الرجلَ أحياناً أكثر من المرأة- وإن تساويا في الدرجة- لعلو موقعها المكفول عن موقعه الكافل.. فلا ذكورة ولا أنوثة هنا؛ وإنما هي الطبيعة والموقع والدرجة.. فكيف يُقال بعد كل هذا إنَّ الإسلام ظَلَمَ المرأة؟! أُنثى مكفولة محفولة لا عمل عليها إِنْ كَرِهَتْه، ولا مَنْعَ منه-بشروطه- إنْ أَرَادَته، لا نفقة منها على غيرها وإن امتلكت الملايين، ولا تقصير من عائلها في النفقة عليها وإن أعجزتُه الملاليم، مع ذمةٍ مالية خالصة لا نَقْصَ فيها ولا انتقاص منها.. كيف تكون من هذه حالها مظلومة؟! وأين ومتى حدث هذا في حضارة من الحضارات أو دين من الأديان، وبأي حجة تافهة تزاحم الأُختُ أخاها- بعد كل هذا-فيما فرضه الله له حسب موقِعِهِ مما سينفِقُه كُلَّهُ أو جُلَّه على امرأة مثلها في الوقت الذي ستحتفظ هي فيه بنصيبها من أبيها كاملاً مكملاً؛ فإنْ ضَرَبَتْهَا ضرباتُ الزمن ومالت عليها الأيام عادت إلى أخيها أو ابنها فوجب عليه شرعاً أن يُنفق عليها من نصيبه ذاك الذي يُنفقُ منه على زوجته وأولاده.. فكأنها حصلت انتهاءً على ما ظنته مساواةٍ ابتداءً، ونَقَصَ هو عنها انتهاءً عما ظنته زيادةً ابتداءً.. ولا نقص في الحقيقة ولا زيادة؛ إنما هو شَرعُ الله الذي حَدَّدَ (الموقعَ) انطلاقاً من (الطبيعة)!!
ثم هل الدنيا كلها (ابنٌ وابنةٌ فقط)؟! فأين الأخ والأخت وأبناؤهما، والعم والعمة وأبناؤهما، والأشقاء وغير والأشقاء، والشقيقات وغير الشقيقات، والخال والخالة وأبناؤهما، والزوج والزوجة، والجَدُّ والجّدَّة والأحفاد.. وغير ذلك مما جمعه الإسلام تحت مصطلحات: (العَصَبةِ، وبنو العلات، وبنو الأخياف).. أليس في هؤلاء كلهم (ذكر وأنثى كالابن والبنت).. أليس لهم في المُتوفَى حقوق كما كان عليهم في حياته تِجَاهَه واجبات؟!
هل سَتُورِّثُون الابن والابنة فقط ؟!
هل سنظلمُ المرأةَ مطلقاً فنأخذ من حقها ونُعطيه للرجل في الحالات التي أعطاها الإسلامُ فيها أكثرَ من الرجل؛ ليتساويا في الميراث كما يَظنُ هؤلاء الكفار؟! وهل تقبل امرأةٌ بهذا؟!
أعطونا معياراً غير (الطبيعة والموقع ودرجة القرابة) نتحاكم إليه في القِسمة؛ لأننا لو تحاكمنا إلى مطلق المساواة بين الذكورة والأنوثة فلن يُظلمَ الرجلُ فقط؛ بل ستُظلم المرأةُ أيضاً ظُلماً أشد من ظُلمِ الرجل!!
الإسلامُ لا ينظر إلى تفاهات ووساخات عقول العلمانيين.. الإسلامُ نظامٌ دقيق قام على معرفته بطبيعة الدنيا وتشابك العلاقات بين الناس فيها نَسَبَاً وعَصَبَاً ورَحِمَاً وموالاةً!!
في الإسلام مَنْ يَرثُ (فَرضَاً)، ومَن يَرِثُ (عَصَبَةً)، ومَنْ يَرِثُ (رَحماً).
في الإسلام ذَكَرٌ يُحجَبُ عن الميراث بِذَكر، وذَكَرٌ يُحجَبُ عن الميراث بأنثى، وأنثى تُحجَبُ بذكر، وأنثى تُحجب بأنثى!!
في الإسلام معانٍ للميراث لا تخرج عن النسب والولاء والنكاح، وأسبابٌ تمنع الميراث حتى بين الابن وأبيه، مثل: الرِقِّ، والرِدَّة، والقتل، واختلاف الدينين، والإشكال في الموت، وما يؤدي إثباته إلى نفيه!!
في الإسلام حالات متداخلة- كتداخل الحياة وتشابكها- لِكُلِّ أَبٍ وابنٍ وبنتٍ وأختٍ وأُمٍّ وخالٍ وخالةٍ وعَمٍّ وعَمَّةٍ وجَدٍّ وجَدَّةٍ وأحفاد!!
هل عرف العلمانيون التفاصيل الدقيقةَ التي وضعها الإسلامُ حلاً لإشكالات المواريث التي ينشأ عنها الظُلم والقطيعةُ بين ذوي الأرحام نساءً ورجالاً؟!
هل درسوا المدونة الفقهية الخاصة بهذا العلم المتفرد إسلامياً ثم وجدوا غيرهَا أصلحَ منها.. أم هو التقليد والتبعية وعداء الإسلام ونظامِه؟!
هل سمعوا عن العَصَبَةِ، والحَجْبِ، والعَوْلِ، والرَّد،ِ والتأصيلِ، والتصحيح، والانكسار، والرواجع، والمَصَحِّ والجامعة، والمماثلة، والمُدَاخَلة، والمُوافَقة والمباينة، والموقوفِ والصمَّاء، والإدلاء، والكلالة، والمناسخة، والتخارج، والمُلَقَبَّات، والأصل العادل، والأصل العائل، والأصل الناقص، وميراث المرتد، وميراث المُلَاعَنَة، وميراث الخُنثى، وميراث المفقودِ والحَمْل، وأحكام التوريث بالعُمرَى والرُقْبَى، وأبوابِ الحَجْرِ والإفلاسِ، والوقف، وإحياء الموات، والحِمَى؟!
هل سمعوا عن هذا أو بعضه مما لا يزال يحدث بين الناس فلا يجدون حلاً لإشكالاته أعظمَ من حلول النظام الإسلامي لها!!
ويكأن أساطين الاقتصاد الغربي لم يفهموا طبيعة فلسفة المال في الإسلام كما فهمها ذلك الأعرابي الأُميُّ حين سأله سائل: لِمَن الإبل يا أعرابي؟! فقال: هي لله في يدي!!
إي والله.. المالُ لله في أيدينا، يورثه مَنْ شاء كيف شاء متى شاء.. وحاشا لله جل وعلا أن يكون ظالماً لأحدٍ من خَلقِه!!
هذا هو النظام الإسلامي، وهذا هو دين الله الذي فضلتم عليه النظام الغربي الديمقراطي؛ فإن تعارض هذا الجمال والجلال مع النظام الغربي الذي تعيشون في مستنقعه؛ فهل الحكمة أن نُسقط هذا الجمالَ والجلالَ لنظلَّ في المستنقع أم الحكمةُ أن نَخرُجَ من المستنقع ونعمل على تحقيق هذا الجمال والجلال؟!!
حَفِظَ النظامُ الإسلاميُّ المرأةَ من الضنك والمشقة، وأخرجها النظام الغربي إلى الضنك والمشقة، ثم امتهنها في شريف الأعمال وخسيسها؛ فظننتم أنها ساوت الرجل في الطبيعة والموقع حين ساوته في العمل والمشقة؛ فأردتم أن تُسقطوا شرع الله الذي حفظها بالطبيعة والموقع من الضنك والمشقة، حين لم تستطيعوا إسقاطَ النظامَ الغربي الذي أهانها بحطها عن طبيعتها وموقعها فجرجرها إلى الضنك والمشقة.. أي عقول هذه؟!
الأصل أن تعيدوا الأصل.. الأصل أن تَسْعَوُا لإحلال النظام الإسلامي المتسق مع الفطرة والطبيعة لا أن تُرَقِّعُوا هذا بذاك فتُسقطوا هذا ثم لا تُدركوا ذاك!!
إِنَّ كُلَّ الاختلالات النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في حياتكم الآن ليست ناتجةً عن تطبيق الإسلام؛ بل ناتجةٌ عن عدم تطبيقه.. مَا ذَنْبُ الإسلام فيما يحدثُ لكم وقد أبعدتموه عن حياتكم ورضيتم- اضطراراً أو استخذاءً أو اقتناعاً- بغيره؟!
اشرَبُوا إذَنْ وَتَضَلَّعُوا..
اشربوا حريةً أخَسَّ من الرِقّ، وعدالةً أخَسَّ من الجور، ومساواةٍ أخسَّ من العنصرية!!
لا تُحَمِّلوا الإسلامَ ذَنْبَ ترقيعكم فإن الإسلام يَعلو ولا يُعلى عليه.. الإسلامُ لا يقبلُ الترقيعَ ولا التلفيقَ ولا الشِّراكة.. خذوه جملةً أو دعوه جملة فإنه عزيزٌ لا يَعِزُّ بواديه سواه!!
فإن قلتم إنَّ النظامَ الإسلاميَّ في المواريث (لم) يُطَبَّق من قبل و(لا) يُطَبَّق الآن؛ فقد كَذَبْتُم وَصَدَقْتُم.. كَذبتم في ادعاء عدم تطبيقه؛ فقد طُبِّقَ في زمن عز الإسلام بحذافيره حيناً وبانتقاصٍ منه أحياناً حسب درجةِ قُربِ الناس وبُعْدِهِم عن الله.. وَصَدقتم في أنه لا يُطبق الآن، لا لأنه لا يصلح للتطبيق؛ بل لأنكم لم تريدوا تطبيقه، أو لم تسعوا إلى تطبيقه، أو لم تحرصوا على امتلاك القوة لفرض تطبيقه.. ثم أردتم مسايرة النظام العالمي- اضطراراً أو استخذاءً أو اقتناعاً- فَرَقَّعْتُم بعضَ ما مَزَّقتُم من الإسلام بوساخات عقول الكفار، ثم ازدادت المسايرة بازدياد الضغط؛ فمزقتم ورقعتم، ثم مزقتم ورقعتم، ثم لمَّا لم يبق في الثوب ما يُرقّع قلتم: حُديبيةٌ ومرحلةٌ مكيةٌ وفقهُ واقع!!
نُرَقِّعُ دنيانا بتمزيقِ دِينِنَا
فلا دِينُنَا يبقى ولا مَا نُرقِّعُ
*****
تَكْمُنُ المشكلة في هذا الترقيع الناتج عن نفسيةٍ رغائبيةٍ تُصِرُّ على ضرب المنظومات المتضادة في خلاط واحد لتحصل على مَسْخٍ رغائبي مُشَوَّه ليس له أثرٌ في الواقع إلا تشويه الواقع!!
مشكلتكم أنكم لا زلتم تُصِرُّون على تسمية الجوافةِ زيتوناً والزيتونَ جَوافة!!
في بعض أقاليم جزيرة العرب كان الناس قديماً- لعدم معرفتهم بالزيتون- يُسَمُّون الجوافةَ زيتوناً!!
مَا حَدثَ للشورى والديمقراطية شبيه بما حَدَثَ للجوافةِ والزيتون!!
الجوافةُ لم تصبح زيتوناً على الحقيقة لمجرد تسميتها زيتوناً، والديمقراطية لم تصبح شورى على الحقيقة لمجرد تسميتها شورى.. لم تكن المشكلة في الجوافة ولا في الزيتون؛ بل كانت في بعض إخواننا من أهل الجزيرة.. ولم تكن المشكلة في الديمقراطية ولا في الشورى؛ بل كانت في بعض إخواننا من أهل الإسلام!!
أهلُ الجزيرة الآنَ لا يُسَمُّون الجوافةَ زيتوناً؛ لقد رأوا الزيتون وأكلوه، كما رأوا الجوافة وأكلوها.. والعقلاء من أهل الإسلام الآن لا يُسَمُّون الديمقراطيةَ شورى؛ لقد فهموا الشورى وعرفوها، كما جربوا الديمقراطية فأكلتهم!!
ولكي تعرفوا ما الذي يمكن أن يفعله ضرب المصطلحات بعضها ببعض؛ تخيلوا معي أن المسلمين في ذلك الإقليم من جزيرة العرب قرؤوا قَسَمَ الله جل وعلا في القرآن بالزيتون، وقرؤوا أمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم بأكله والادِّهَانِ به؛ فنشأت- تَبَعَاً لذلك- حالةٌ دينية كاملة عن بركة الزيتون وزيته، ثم أنشأت هذه الحالة الدينية حالةً اجتماعية كاملة، تَبِعَتْهَا بالضرورة حالةٌ اقتصادية كاملة؛ فصار الناس- لتواضعهم ديناً وعُرفَاً على بركة الزيتون وزيته؛ يبيعونه ويشترونه ويصفه الأطباء والعطارون دُهناً للأجساد والشعور وعلاجاً لبعض الأمراض والأدواء.. حتى إذا جاء رجل من أهل الشام- أهل الزيتون-؛ فدخل ذلك الإقليم؛ وأخبرهم بالحقيقة؛ انهارت الحالات كلها؛ وإذ الزيتُ الذي كان زيتاً ليس سوى عصير جوافة أفتاهم شيخٌ أفاق أو تاجر لص بأن الزيت في بعض لغات العرب قد يُطلق على العصير!! وإذ الناس منذ زمن يدهنون أجسادهم وشعورهم بعصير الجوافة ظناً منهم أنه زيت زيتون.. ذلك الزيت المبارك من تلك الشجرة المباركة!!
من الصعوبة بمكان أنْ يُصَدِّقَ الناسُ بعد كل هذا أَنَّ الجوافةَ جوافة والزيتونَ زيتون؛ خاصة وقد شفى عصيرُ الجوافة- بالوهم- كثيراً من أمراضهم التي قيل إن الزيتون يشفيها!!
هذا بعض ما يفعله (المصطلح) في عقول الناس وحياتهم.. إنه يُنشِئ حالةً كاملة من الوعي أو الغيبوبة فلا تستطيع- بعد تَجَذُّرِهَا في عقول الناس- تجليةَ أمره أو كشفَ حقيقته إلا بشق الأنفس.. وقد غَبَر العلمانيون زمناً ينسبون (العلمانية أو العالمانية) إلى العلم- جهلاً أو خُبثاً- وهي في أصلها تعني (اللاديني أو الأرضي)، ثم ضَلَّتْ أممٌ من المسلمين بذلك وأضَلَّتْ، ولا يزال بعضُ أوباش العلمانية يخدعون أدعياء الثقافة بهذا وأضرابه!!
المُصطَلحُ احتلاليٌّ بِطَبعِه؛ لا يتسعُ العقلُ به إلا بِقدر ما يضيق، ولا يُنير إلا بقدر ما يُظلِم، وهو للعقل كالكلمة الجديدة للطفل؛ ليست حروفاً يُرَدِّدُها لسانُه، بل بذورٌ ينبتُ بها عقلُه، وعقلُ الطفلِ لا ينمو بالكلمات والألفاظ بل بالمعاني التي تحملها الكلمات والألفاظ!!
لقد بُحَّتْ أصواتنا ونحن نقول لكم: الديمقراطية ليست الشورى، والشورى ليست الديمقراطية.. المركز في الكيانين مختلف؛ وبحسب المركز تكون الأطراف!!
بُحَّتْ أصواتُنا ونحن نقول لكم: سيأتي اليوم الذي تُخَيِّرُكم فيه الديمقراطية بين الإسلام الخالص أو الكفر المحض؛ فإن اخترتم الإسلامَ خسرتم مكاسبكم المدعاة، وإن اخترتم الديمقراطية كفرتم كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان!!
ألا زلتم تُصِرُّون على أن الديمقراطية هي الانتخابات أو حرية الاختيار أو الصناديق؟!
وَيكَأنَّكُم لا تَجهلونَ حقيقةَ الديمقراطية؛ بل حقيقةَ الإسلام!!
إنَّ الفرق بين الشورى والديمقراطية ليس فرقاً هَيِّنًاً حتى يقال: ( نَتَجَمَّز بالجميز إلى أن يأتينا التين).. الجِمِّيزُ والتين- وإن كانا يشبهان بعضهما- مختلفان جداً طعماً وفائدة.. وَمَنْ سَاوى بين منهجينِ منطلقُ أحدِهِمَا الربُّ ومنطلق الآخر العبد كان كمن أراد أن يجمع الجمرَ والثلجَ في يد واحدة فلا ينطفئ الجمر ولا يذوب الثلج.. وأَنَّى له ذلك!!
هَا أنتم الآن تُكَفِّرُونَ رجلاً أراد تطبيق الديمقراطية التي دعوتم إليها وقاتلتم في سبيلها!!
وإِنَّ من أعجبِ العجبِ أنكم تُكَفِّرون (الفاعلَ) ولا تُكَفِّرونَ (الفِعْلَ).. والأصلُ حُكماً أن يُنظرَ إلى الفعلِ أولاً؛ فإن كانَ الفعلُ كُفراً نُظِرَ إلى فَاعِلِهِ ثانياً؛ ثم لا يَكفُرُ فاعِلُه إلا بَعْدَ تَحَقُّقِ الشروطِ وانتفاءِ الموانع.. أما أنتم فتُكَفِّرُون الفاعلَ وتُؤسلمون الفعل.. وليتَ شِعري.. إنْ أسلمتُم الفِعلَ وكَفَّرتُم الفاعلَ فَبِأيِّ شيءٍ كَفَرَ الفاعل؟!
أُرِي عَينَيَّ ما لم تَرْأَيَاهُ
كِلانا عالمٌ بِالترَّهَاتِ
مائةُ عَامٍ من الكذب وأنتم تُنَظِّرونَ للديمقراطية وتُقَرِّبُونَها من الشورى حتى صارت- في أذهانكم وأذهان الناس- هي الشورى والشورى هي؛ يدفعكم في ذلك- صادقين- ما نعانيه في بلادنا من القهر والكبت والظلم، وما نراه في بلاد الديمقراطية من (وَهْمِ) الحرية والمساواة والرفاه.. والغريبُ أنه كلما زاد تعلقكم بالديمقراطية والمناداة بها؛ أوعز أهلُ الديمقراطية إلى حكامكم أن يذيقوكم مزيداً من القهر والكبت، وأن يصبوا فوق رؤوسكم حمم الديكتاتورية، حتى صارت الديمقراطية في عُرْفِكُم وعُرفِ الناس طَوقَ نجاةٍ وجنةً موعودةً ومدينةً فاضلة.. لقد ساهمتم-غافلين- في (تعطيش) السوق لاستقبال البضاعة!!
وحينَ أَطَلَّتْ البضاعةُ برأسها رأيتم سُمَّاً في دَسَمٍ إنْ تناولتموه هلكتم شَبَعَاً وإنْ تركتموه هلكتم جوعاً؛ فقلتم لأصحاب البضاعة: نريدُ دسماً خالصاً لا سُمَّ فيه كالذي عندنا؛ فقالوا: (وَمَنْ أنتمُ حتى يكونَ لكم عِندُ؟!).. ثم أذاقوكم- بِحُكَّامِكُم- الويلات وصَبُّوا فوق رؤوسكم المآسي!!
وإذِ الأمر لا حرية فيه ولا عدالة ولا مساواة.. وإذ هو مُطلقُ القوة والقهر والغَلَبَة!!
لقد قال لكم أصحابُ البضاعة: هذه ديمقراطيتنا، ونحن أدرى بها، وسنفرضُها.. فما الذي تملكون أنتم من أسباب القوة لتفرضوا ديمقراطيتكم المزعومة التي لا تُخالف شرع الله!!
يا أصحاب سؤال (البديل).. هذا هو البديل الذي تسألون عنه..
البديل: هو امتلاك القوة، والخروج من الصندوق، وتحطيم قيود النظام العالمي!!
وعبثاً تبحثون عن كيفية اختيار الحاكم في الوقت الذي يجب أن تبحثوا فيه عن كيفية قتله!!
أَيُّ اختيارٍ هذا الذي تَشْغَبُونَ بِهِ على من يَدُلُّكُم على الطريق؟!
أَيُّ اختيارِ هذا الذي لا تملكون القوةَ لفرضه أو الحفاظ عليه؟!
قد اخترتم.. فكان ماذا؟!
قبع المُختَارُ في سجنه، وهرب المُختارون إلى المنافي!!
ما هذه الرفاهية العقلية المقيتة؟!
أو كلما نَبَّهَكُم أحدٌ إلى الفخ، قلتم: أين البديل!!
بديلٌ عن ماذا؟! عن المستنقع الذي تتخبطون فيه؟!
أَيُّ بديلٍ هذا الذي تسألون عنه وأنتم لم تعيشوا أصلاً؟!
اخرجوا من المستنقع أولاً ثم اسألوا عن البديل؛ فلربما كان البديل في مجرد الخروج من المستنقع!!
البديلُ في معرفة واجب الوقت والعمل على تحقيقه..
معرفةُ واجبِ الوقت هو واجبُ الوقت!!
البديلُ في ذات الشوكة التي تودون غيرها..
البديلُ في ذات الشوكة ولو فشلت ألفُ مَوجةٍ من موجاتها..
ليسَ فشلاً ما عَلَّمَكَ أسبَابَه، ومَا فَشِلَ مَنْ ادَّارَكَ أسبابَ فَشَلِه!!
النصرُ مجموعةُ محاولاتٍ فاشلة، والفتحُ مجموعةُ انتصاراتٍ ناقصة!!
ستحصلون على (كُلِّ) أدوات الفعل حين تبدؤون في السعي إلى امتلاكِ (بَعضِ) أدوات الفعل!!
أتظنون أن الغرب وصل إلى ما وصل إليه بالصناديق والانتخابات والمثالية الفارغة.. والله ما وصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه إلا بعد عقودٍ من المجازر تلتها عقودٌ من المجازر تجددت بعقودٍ من المجازر!!
وَهْمُ الغَلَبَةِ دون قوة كوهم الراحة دون تَعب.. وأَيُّ راحةٍ بلا تَعب؟!
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلبٌ في الماء جذوة نارِ
لا تتعجلوا قفزاً إلى الدرجة الأخيرة قبل أن تضعوا أقدامكم على الدرجة الأولى.!!
(الآن وهنا).. هذا هو المنطلق!!
(من نحن وماذا نريد).. هذا هو المنطلق!!
(كيف وإلى أين).. هذا هو المنطلق!!
ستجدون- بعد ذلك- في نظامكم الإسلامي كُلَّ ما تريدون وزيادة.. واتركوا عنكم أهلَ الَّلجَاجَةِ والسفسطةِ الذين يَزعمون- جاهلين- أنَّ الإسلام ليس فيه نظام حكم؛ فهؤلاء لا يعرفون معنى كلمة (نظام) ولا معنى كلمة (حكم) إلا إذا كان نظاماً غربياً أو حكماً أجنبياً بتقسيماته وتفصيلاته.. ولو أَتعَبُوا أنفسَهم قليلاً لوجدوا في مدونات المسلمين الكبرى- قديماً وحديثاً- أصلَ كُلِّ خيرٍ موجودٍ عند غيرهم، مرتبطاً بالله والشريعة لا بالبشر والأهواء!!
ستجدون كيفية اختيار الحاكم وكيفية عزله.. ستجدون كيفية اختيار الحكومة وكيفية عزلها.. ستجدون ماهيةَ السُلطات وأنواعَها وطرائقَ الفصل بينها.. ستجدون استقلالَ التشريعِ والقضاءِ والقُضاة.. ستجدون الانتخابَ وشروطَه، والناخبين وشروطَهُم، والمُنتَخبين وشروطهم، والأغلبيةَ اللازمةَ للانتخاب، والتمييزَ بين الخلافة الصحيحة والخلافةِ الناقصة، وعملَ الحكومةِ وصلاحياتها، وحدودَ الحاكم وصلاحياته، وأنواعَ الوزارات المختلفة وأسماءَها وتقسيماتِها وصلاحياتها، والمبادئَ التي تُحَدِّدُ سلطةَ الحكومة، والرقابةَ على أعمال الحكومة، ونطاقَ ولاية الحكومة، وولايةَ الاضطرار، وولايةَ التغلب، والضروراتِ التي تفرضُ وجودَ الحكومة الناقصة والمتغلبة وتُنهي الحكومة الكاملة المنتخبة.. ستجدون حقوقاً وواجباتٍ لغير المسلمين في بلاد الإسلام- ذميين أو معاهدين- لم يحلموا بها في بلادهم آنذاك.. ستجدون ما يشبه مجالسَ الشورى والشعب والنُخَب والأعيان والعُرفَاء.. بتفاصيل مذهلة وأحياناً مملة.. ستجدون وجوداً للدولة في كل شأن من شؤون حياة الناس حتى تكاد تظن أن الدولةَ أُمُّهُمْ وأَبُوهُمْ، كما ستجدون استقلالاً غريباً للناس بأعمالهم ومعاشهم وأوقافهم وتجاراتهم، وأحياناً كثيرةً بأفكارهم؛ حتى تكاد تظن أن الدولة ليست سوى (مديرٍ تنفيذي) يُشرف على سير العمل بأصوله المقررة ثم يترك الحرية للجميع في عمل ما يريدون؛ فإذا تغيرت الحكومة أو سقطت لم تكد تتغير حياة الناس أو تتأثر.. ولا أظنني سأكون مغالياً إن قلت: إن نظرية (الجماعات الوسيطة) في الأمم والشعوب لم تُنفذ في ظل حكمٍ أو نظامٍ كما نُفِّذت- تلقائياً وبدون تخطيط- في ظِلِّ الحكم الإسلامي ونظامه!!
ستجدون هذا وأمثاله وأضرابه بتفاصيل مدهشة واجتهادات مختلفة حسب الزمان والمكان حتى يكاد يظن القارئ أن المسلمين لم يتركوا شيئاً لغيرهم.. وهم- رغم كل هذا- لا يترفعون عن الإفادة من غيرهم بالحكمة التي هي ضالة المؤمن!!
بل ستجدون- على سبيل المثال- اقتراحاً مدهشاً في العصر الحديث للشيخ رشيد رضا رحمه الله- ربما يُذَكِّرُنا ببعض نظرية أفلاطون القديمة عن حكم الفلاسفة- يطالب فيه بإنشاء مدرسةٍ عاليةٍ لتخريج المرشحين للإمامة العظمى يُنتَخَبُ مِن خِرِّجِيْهَا رجالُ ديوان الخلافة الخاص، وأهلُ القضاء والإفتاء وواضعو القوانين العامة ونظم الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه، وإزالة البدع والخرافات اللاصقة بأهله.. ولا يكتفي الشيخُ رحمه الله بذلك بل يحدد العلوم التي يجب تدريسها في المدرسة، مثل: أصول القوانين الدولية وعلم الملل والنحل، وخلاصة تاريخ الأمم، وسنن الاجتماع، ونظم الهيئات الدينية- كالفاتيكان والبطاركة والأساقفة وجمعياتهم الدينية وأعمالها.. ثم يقول:” فمتى يُخَرَّجُ من هذه المدرسة في الزمن المعين أفرادٌ مستجمعون لشرائط الخلافة، ومن أهمها العلم الاستقلالي الاجتهادي والعدالة؛ تزول ضرورة جعل الخليفة جاهلاً أو فاسقًا”!!
ثم ويا للغرابة.. حين ثَارَ- في زَمَنِهِ- النقاشُ حول مكان عاصمة الخلافة؛ اقترح أن تكون مدينة (الموصل) هي عاصمة الخلافة لأنها- بموقعها الجغرافي- حلقةُ وصل بين المسلمين عرباً وتركاً وكرداً!!
فإن قلتم إنَّ أصولَ الحُكمِ في الإسلامِ لم تُطَبَّق في تاريخ المسلمين كاملةً إلا في عهد الخلافة الأولى، فقد صدقتم والله؛ فخذوا أنتم هذه الأصول وأعيدوا لنا بها عظمة الخلافة الأولى، ولا يُيئِسَنَّكُم مِن العودة إليها والاهتداء بهديها قلةُ تطبيقها حيناً، أو انعدامُ تطبيقها أحياناً، أو خروجُ الخلافة من الرُشد إلى الجَبْر؛ فإن أفعال البشر التي تنتج عن الأهواء والرغبات ليست حجة على الله وشرعه.. والله الذي تكفل بحفظ أصلِ الإسلام من التحريف لم يتكفل بحفظ أفعال المسلمين من الانحراف؛ وإلا صارت الأرضُ جنةً، والدنيا آخرةً، والناسُ ملائكة.. ومَا على هذا أقامَ اللهُ سُننَ الدنيا.. وهاهي الديمقراطيات الغربية المختلفة لا نكاد نجد فيها ديمقراطيةً تشبه أخرى؛ بل لا نكاد نجد أصلاً ثابتاً فيها لم يُعبث به أو يُلتفَّ حَولَه؛ حتى علت أصواتُ كثيرٍ من مفكريهم منذ زمن للبحث عن نظام أكثر رشداً من هذه الديمقراطية التي أثبتت التجارب والوقائع أنها نظام غير رشيد، وأن أصولها- وإن سَدَّت بعضَ الثغرات- تسير بالناس إلى المجهول.. ولا غرابة- بَعدَ (ترامب) وأمثاله أن نُصَدِّقَ أفلاطون حين سماها (حُكم الغوغاء)!!
*****
أصولُ كُلِّ خَيرٍ موجودةٌ في النظام الإسلامي، ولكنكم صِرتُم:
كَالعِيْسِ في البَيدَاءِ يقتُلها الظَّمَا
والماءُ فوقَ ظُهورهِا مَحمُولُ
ونحن- وإن تحامقتم مرةً فأنكرتم أن يكون في الإسلام نظام حكم يصلح بديلاً للمستنقع الديمقراطي الذي تعيشون فيه- لا نُسَلِّمُ لكم بهذا ولا ببعضه؛ بيد أنَّ بين أيديكم الآن بديلٌ إسلاميٌ كاملٌ متكامل في الأحوال الشخصية بأقسامها؛ فهل تملكون القوة يا أصحاب البديل لفرض هذا البديل؟!
إنَّ تَذَاكِيْكُم على مَنْ وَصَلَ احتِلَالُهم إلى غُرفِ نومكم نُقصانُ عَقلٍ أنتجَ ترقيعاً لواقعٍ مُرٍّ لا تُريدون أن تُتعبوا أنفسَكم في فَهْمِه ثم في العملِ على تغييره!!
وتَجَوُّزاً.. لكم أن تتحامقوا ثلاث مرات.. في الرابعة سنكون نحن الحمقى إن لم نُخبركم بتحامقكم.. حتى لو كُنًّا متكئينَ على أرائكنا.. الاتكاءُ على الأرائك أهونُ من خيانة الله ورسوله.. اتكِئوا معنا ولا تخونوا حتى يأتي قومٌ لا يتحامقون ولا يخونون ولا يتكئون!!
يَا هَؤلاء.. كَفَى عَبَثَاً..
في الزجاجةِ عَصيرُ جوافة لا زَيت زيتون؛ فَاشرَبُوا على بَصِيرةٍ أو دَعُوا !!
د.علي فريد