أنتم على موعد مع قصة تتكرر، ومأساة نسمع بها حتى باتت ظاهرة مؤلمة تمزق قلوبنا.
عائلات تشتتها القوانين في الغرب وأطفال ينتزعون من أحضان أمهاتهم وآبائهم في دول مثل ألمانيا.
البعض يسمي هذا بالاختطاف الأبيض، لكن الحقيقة أعمق من ذلك.
فهذه ليست مجرد حوادث فردية أو أخطاء إدارية، بل هي همجية حقيقية، همجية منظمة ترتدي ثوب الحضارة وتتخفى خلف ستار القانون.
قصة اليوم حول فتاة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها فقط، من ذوي الهمم، صماء لا تسمع اختطفتها السلطات الألمانية من والدتها ونزعت منها الحضانة ووضعتها في أحد دور الرعاية التي لم تجد فيها إلا الدمار النفسي والحرمان والشعور بالحزن.
قررت الفتاة الهروب من دار الرعاية التي تشرف عليها الدولة، لا لشيء إلا لتعود إلى المأمن الوحيد الذي تعرفه في هذا العالم، حضن أمها.
هذه ليست قصة من نسج الخيال، بل هي الواقعة المروعة التي حدثت في مدينة بوخوم الألمانية.
في مدينة بوخوم تجلت الهمجية الغربية في أبشع صورها.
قصة هذه الفتاة وأمها تكشف لنا عن القسوة الباردة التي يمكن أن تختبئ خلف ستار القانون والإجراءات الرسمية.
القصة بدأت عندما فاض الشوق بالطفلة، فقررت الهرب من مقر الرعاية واللجوء إلى أمها.
لكن المشرفين بدلًا من أن يفهموا هذا الحنين الفطري، وضعوا الإجراءات فوق كل اعتبار إنساني، وأبلغوا الشرطة فورًا.
وهنا تحولت القصة إلى مأساة. اتجهت الشرطة مباشرة إلى بيت الأم و طرقوا الباب، وهي الأخرى صماء لا تسمع.
وعندما لم تجب ولم تفتح الباب، تحولت مهمة بسيطة لإعادة الطفلة إلى حصار كامل للمنزل، وكأنهم يداهمون وكرًا لأخطر المجرمين.
وهنا نسأل، ما هي الجريمة التي ارتكبتها هذه الأم؟ جريمتها أنها لم تفتح الباب الذي لم تسمع طرق الباب.
أم أن جريمتها الأعظم أنها فتحت قلبها وبيتها لطفلتها الهاربة إليها؟
يا الله، كيف تصل القلوب إلى هذه الدرجة من القسوة، فتُجرم حنان الأمومة الطبيعي، وتعتبر لجوء طفلة إلى حضن والدتها فعلًا يستدعي كل هذا العنف؟
وبدلًا من التصرف بعقلانية وإنسانية، وتقدير ضعف الأم وابنتها وظروفهم الخاصة، استدعوا خدمة متخصصة لكسر الباب واقتحام المنزل.
وبالصدفة فتحت الأم الباب لتجد نفسها في وضع مرعب.
في لحظة واحدة وجدت الأم وطفلتها نفسيهما في مواجهة جموع من الشرطة المدججة بالأسلحة والصواعق. الطفلة المذعورة في محاولة يائسة وبائسة للدفاع عن نفسها وعن حقها في البقاء مع أمها، أمسكت بسكينين صغيرين. وقالت لهم: أريد أمي لا أريد الذهاب معكم.
وهنا كانت الكارثة، فبدلًا من احتواء الموقف وتهدئة طفلة مرعوبة، قام أفراد الشرطة بكل برود بإطلاق النار عليها وصعقها بالكهرباء. سبحان الله، أي منطق هذا؟
والنتيجة، طفلة في عمر الزهور تسقط على الأرض، مصابة بإصابات بالغة، وتُنقل إلى المستشفى بين الحياة والموت.
أي عقل سوي يقبل أن يُعامل طفل بهذا العنف المميت؟ هل هذا رد فعل إنساني متزن أم هو سلوك آلي ميكانيكي بلا قلب ولا ضمير ولا رحمة؟
قد يظن البعض أن هذه مجرد حادثة استثنائية، شاذ عن القاعدة، خطأ فردي في نظام سليم. لكن الحقيقة وللأسف الشديد تقول شيئًا مختلفًا تمامًا. هذه المأساة ليست إلا حلقة واحدة في سلسلة طويلة ومؤلمة من المآسي المشابهة.
ما حدث في بوخوم ليس حادثة معزولة على الإطلاق، بل هو مثال صارخ على ظاهرة منهجية مقلقة، ظاهرة أصبح لها اسم يعرف به: الاختطاف الأبيض.
الأرقام الرسمية الصادرة عن مكتب رعاية الشباب الألماني أو ما يعرف بـ “يوجنت آمت”، تكشف عن حجم الكارثة الحقيقي.
نحن لا نتحدث عن حالات معدودة، بل عن عشرات الآلاف من الأطفال الذين يتم انتزاعهم من عائلاتهم كل عام. وهذا ليس مجرد رقم في إحصائية، فخلف كل رقم من هذه الأرقام قصة تمزيق لأسرة وتحطيم لطفولة.
الاختطاف الأبيض هو الوصف الأدق لما يحدث. هو قيام السلطات الحكومية مثل الـ “يوجنت آمت” بسحب الأطفال من أحضان أهلهم لأسباب واهية أو غير إنسانية أو مبنية على تقارير سطحية. هو نظام يصبح فيه البرود والجفاف هما أساس التعامل، وكل ذلك يتم تحت غطاء قانوني.
هذا النهج يتبع نمطًا متكررًا ومفزعًا. يبدأ الأمر غالبًا بمداهمة البيوت بالقوة ثم تهديد الأسر. وكثيرًا ما يتم استهداف الفئات الأضعف كالمهاجرين وذوي الاحتياجات الخاصة.
يتم سحب الأطفال دون محاكمة عادلة أو فرصة حقيقية للدفاع.
وفي حالات كثيرة تُمنع الأمهات من مجرد رؤية أبنائهن لشهور أو سنوات.
لم تعد هذه مجرد قصص متفرقة، بل أصبحت ملامح واضحة لظاهرة ممنهجة ومقلقة للغاية.
وهنا نصل إلى جوهر المشكلة، إلى ذلك التناقض الصارخ والمؤلم بين الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب، والواقع القاسي المظلم الذي يعيشه الكثيرون تحت سلطة قوانينه.
يتحدثون ليلًا ونهارًا عن حقوق الإنسان، وفي الواقع يداهمون البيوت الآمنة.
يتشدقون بشعار حماية الطفل، وفي الحقيقة يروعون الأطفال ويسلبونهم أمانهم.
يرفعون لافتات العدالة الاجتماعية، بينما يهددون الأسر الضعيفة ويستقوون عليها.
وهكذا، تتحول حضارة الحرية المزعومة إلى منظومة باردة، تمسك بالأطفال بيد وتدعي الرحمة والإنسانية باليد الأخرى.
والأسوأ من كل هذا هو كيف يحمي هذا النظام نفسه ويبرر أفعاله.
فالشرطة الألمانية معروفة بأنها تقتحم البيوت وترعب الأطفال، وفي النهاية بعد كل مأساة، كثيرًا ما تغلق التحقيقات بعبارة واحدة باردة ومجردة من أي إحساس: “سلوك مهني مطابق للإجراءات”.
وبهذه العبارة تُدفن المآسي وتُطمس الحقائق ويُرفع القانون فوق كل اعتبار إنساني.
إذًا، ما نشهده من قسوة ليس مجرد خطأ في النظام أو ثغرة في القانون، بل هو النظام نفسه. إنها همجية منظمة، تُتقن ارتداء ثوب الحضارة وتتخفى ببراعة خلف ستار تطبيق القانون.
إنها الهمجية الحديثة، التي لا تأتي بالسيوف والرماح كما في العصور القديمة، بل تأتي وهي تتحدث بلغة اللوائح والبروتوكولات، وتخفي قسوتها وفظاعتها وراء تقارير رسمية وإجراءات قانونية.
لكنها في جوهرها تبقى هي نفس الهمجية التي استنكرها البشر عبر التاريخ.
بل لعل هذه الهمجية أشد قسوة وخبثًا من سابقاتها، لأنها ترتكب جرائمها باسم الأخلاق والإنسانية وحماية الطفل.
إنها همجية تدعي أنها تقوم بالصواب المطلق، بينما هي في الحقيقة تمزق أقدس الروابط البشرية التي فطر الله الناس عليها.
ومن يرفض أن يرى هذه الحقيقة فهو لا يختار إلا العمى بمحض إرادته.
كل هذا يقودنا إلى سؤال أعمق وأشمل حول معنى الحضارة نفسها.
هل تُقاس الحضارة حقًا بالأبنية الشاهقة والتقدم المادي والتكنولوجي فقط، أم أن هناك مقياسًا آخر أسمى وأبقى؟
إن الحضارة الحقيقية ليست في التقدم المادي فحسب، بل هي في الرحمة والإنصاف والإنسانية.
الحضارة هي أن يرحم القوي الضعيف، وأن يكون القانون ملاذًا للخائف لا سيفًا مسلطًا على رقبته.
هذه هي القيم التي تفتقدها هذه الأنظمة الباردة.
إنها قيم الرحمة التي نجدها في جوهر ديننا الحنيف.
فالحمد لله على نعمة الإسلام التي جعلت الرحمة أساس كل شيء.
وفي النهاية، يبقى هذا السؤال مطروحًا يتردد صداه في وجه كل من يرى هذه المآسي: ما قيمة التقدم المادي في حضارة فقدت الرحمة، وما قيمة كل القوانين والإجراءات إذا كانت تخدم البرودة والقسوة بدلًا من خدمة الإنسان وحفظ كرامته؟

