سؤال من الأخت فاطمة: لا أستطيع تقبل فكرة عدم الترحم على غير المسلمين، أرى حوادث و مآسي تؤلم القلب، و الجميع يشعر بالحزن و الأسى على الضحايا و يترحمون على جميع الضحايا، لكن حرام على المسلم الترحم على موتاهم كما يترحمون على موتاه، لماذا هذا؟ أريد أجيب تريح قلبي
جبر الله خاطرك يا أختي الكريمة فاطمة، وأهلاً بك وبسؤالك الذي ينضح بالرقة والرحمة الفطرية.
أبتدئ معك يا أختاه بما يريح قلبك حقاً، وهو أن ما تجدينه من ضيق وألم عند رؤية المآسي التي تصيب البشر -بغض النظر عن دينهم- ليس “ضعفاً في الإيمان” ولا “اعتراضاً على حكم الله”، بل هو أثر من آثار تلك الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها؛ فطرة الرحمة والشفقة. لقد كان نبينا ﷺ يحزن على فوات الناس من الهدى حتى عاتبه ربه قائلاً: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف: 6]، فالحزن الإنساني شيء، والحكم الشرعي التعبدي شيء آخر.
دعيني أصحبك في رحلة هادئة لنفكك معاً هذا الإشكال الذي يعرض لكثير من القلوب الطيبة، لنفهم لماذا وضع الإسلام هذا الحد، وكيف أن هذا المنع هو في حقيقته “كمال العدل” و”تعظيم لجناب الربوبية”، وليس قسوة مجردة كما قد يتصور البعض.
أولاً: كسر وهم الإطار (بين العاطفة البشرية والحقيقة الوجودية)
أختي الفاضلة، إن الإشكال الذي تعيشينه نابع من “مركزية الإنسان” التي تحاول الحضارة المعاصرة فرضها علينا؛ حيث يصبح “الإنسان” ومسألته هي المقياس لكل شيء، وتتراجع “حقوق الخالق” إلى الظل.
نحن نرى المأساة بعيوننا البشرية القاصرة، فنشفق على الضحية، وهذا جميل، لكننا ننسى -في غمرة العاطفة- أن هذا الخالق الذي نطلب منه “الرحمة” هو نفسه الذي وضع القواعد والسنن، وهو نفسه الذي يملك هذه الأنفس، وهو أعلم بها منا.
حين نترحم على من مات على غير الإسلام، نحن في الحقيقة نفعل “فعلاً سياسياً أو دبلوماسياً” في ظاهرنا، لكنه في الحقيقة “اعتراض مبطن” على عدل الله.
كيف ذلك؟ لأن “الترحم” في الإسلام ليس مجرد كلمة تقال في المواساة، بل هو “دعاء واستغفار بطلب الجنة والمغفرة”، فهل يستقيم عقلاً أن نطلب من ملك الملوك أن يدخل جنته من أنكر وجوده، أو سبّه، أو جعل له شريكاً، أو كذب رسله، بعد أن أقام عليه الحجة في الدنيا؟
ثانياً: تفكيك معنى “الرحمة” و”العدل الإلهي”
يا فاطمة، إن الله سبحانه وصف نفسه بأنه “أرحم الراحمين”، ورحمته سبقت غضبه. لكن يجب أن نعلم أن رحمة الله “حكيمة” وليست “عاطفية مضطربة” كرحمتنا نحن البشر.
قاعدة “الجزاء من جنس العمل”: تخيلي يا أختاه لو أن طالباً اجتهد طوال العام وسهر الليالي، وطالباً آخر سخر من المنهج واستهزأ بالمعلم ولم يحضر حصة واحدة، ثم في نهاية العام، جاء الناس وطالبوا المعلم بأن يعطي كلاهما “شهادة النجاح” والامتياز بدافع “الرحمة”! هل سيكون هذا المعلم “رحيماً” أم “ظالماً” للطلبة المجتهدين؟
إن الله سبحانه خلقنا لغاية عظيمة وهي عبادته، وأرسل الرسل وبث الآيات في الكون.
فمن عاش عمره كله وهو يستمتع بنعم الله، يتنفس هواءه ويأكل رزقه، ثم هو في المقابل يرفض الاعتراف به أو يشرك معه غيره، ثم نأتي نحن “بكل بساطة” لنطالب الله أن يسوي بينه وبين من عاش عمره يسجد ويقنت ويجاهد نفسه لإرضاء ربه!
هذا يا أختاه ليس رحمة، بل هو “إهدار لقيمة الإيمان” وتسوية بين المتناقضات.
احترام إرادة العبد: إن الله سبحانه أكرم الإنسان بـ “حرية الإرادة”. هذا الشخص الذي مات على غير الإسلام، هو في الحقيقة “اختار” بملء إرادته ألا يكون مسلماً، واختار ألا يطلب رحمة الله بطريقتها التي شرعها الله.
فمن الأدب مع الله، ومن احترامنا لإرادة هذا الإنسان نفسه، ألا نفرض عليه “رحمة” هو رفض أسبابها في الدنيا.
إن دخول الجنة يستلزم “عقداً” بين العبد وربه، فإذا نقض العبد العقد أو رفض الدخول فيه أصلاً، فبأي حق نطلب له الثمرة؟
ثالثاً: التمييز بين “البر” و”الترحم” (مكمن الراحة لقلبك)
هنا يا فاطمة نصل إلى النقطة التي تريح قلبك بإذن الله. الإسلام يفرق بدقة بين “التعامل الدنيوي” و”المآل الأخروي”:
في الدنيا: الإسلام يأمرنا بالرحمة والعدل والبر بكل البشر. إذا رأيت مأساة تصيب غير مسلمين، فمن السنة أن تحزني لألمهم، وأن تساعديهم بمالك وجهدك، وأن تواسي جرحاهم، وأن تحترمي إنسانيتهم. بل إن الإسلام جعل في كل “كبد رطبة أجراً”.
في الآخرة: المآل الأخروي هو “حق محض لله تعالى”. والترحم (طلب الرحمة للميت) هو حكم شرعي تعبدي خاص بمن دخل في “حصن الإسلام”.
إننا حين نمتنع عن الترحم، نحن لا “ننتقم” من الميت، بل نحن “نلتزم بحدود الله” ونعلن أن “كلمة التوحيد” لها وزن، وأنها ليست كلمة هامشية يمكن تجاوزها بمجرد العاطفة.
رابعاً: الإلزام العقلي (محاكمة العاطفة إلى المنطق)
تأملي معي يا فاطمة هذه الحجة العقلية: لو أننا فتحنا باب “الترحم” والاستغفار لكل أحد، فما هي قيمة “الإسلام” إذن؟ ولماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا صبر الصحابة على التعذيب والقتل؟ ولماذا نجتهد نحن في العبادة؟ إذا كان المؤمن والمشرك، والمصلي والجاحد، والساجد والملحد، سينالون جميعاً ذات الدعاء بالرحمة والمغفرة، لصار الدين “عبثاً” -تعالى الله عن ذلك-، ولصارت الدعوة إلى الله لغواً لا قيمة له.
إن منع الترحم هو “سياج” يحمي عظمة التوحيد في قلب المسلم، ويجعله يدرك أن أعظم مصيبة في الوجود ليست “الموت في حادث”، بل هي “الموت على غير التوحيد”.
هذا المنع يوقظ فينا “الحرص” على دعوة الناس وإنقاذهم قبل فوات الأوان، بدلاً من تخدير مشاعرنا بدعوات لا يقبلها الله.
خامساً: سد الاعتراضات (الرد على شبهات “الإنسانية الزائفة”)
قد تقول قائلة: “لكن الله غفور رحيم، فربما يغفر لهم!” فنقول: بلى، الله غفور رحيم، لكنه أيضاً “شديد العقاب” و”عزيز ذو انتقام”، وهو الذي قال في محكم تنزيله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
هل نحن أرحم بالخلق من خالقهم؟ هل عاطفتنا “الفاطمية” الرقيقة أوسع من حكمة رب العالمين؟ حاشا لله.
إن الذي يطالب بالترحم على غير المسلم هو في الحقيقة يمارس نوعاً من “الاستعلاء الأخلاقي” على الله، وكأنه يقول: “يا رب، أنا أرى في هؤلاء خيراً أكثر مما تراه أنت، فرحمتي وسعتهم بينما رحمتك ضاقت عنهم!” وهذا لعمري من أعظم الجهل بمقام الألوهية.
سادساً: (فضح نفاق الخطاب الحداثي)
يا فاطمة، تأملي هؤلاء الذين يتباكون اليوم ويطالبون بالترحم على الجميع باسم “الإنسانية”؛ أين كانت إنسانيتهم حين كانت آلات الحرب الغربية “الملحدة والعلمانية” تبيد ملايين المسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين؟
إنهم يريدون منا أن “نميع” عقيدتنا ونلغي الفوارق بين الحق والباطل، بينما هم يطبقون “حد الردة السياسي” على كل من يخالف قوانينهم الوضعية!
لماذا يزعجهم أن نحتفظ بخصوصية “دعائنا” و”عبادتنا” لمن شاركنا الإيمان؟
إنهم لا يريدون الرحمة للموتى، بل يريدون “قتل الولاء والبراء” في قلوب الأحياء، حتى يصبح المسلم كائناً هلامياً لا هوية له، يتقبل كل شيء ويترضى عن كل شيء، ليذوب في النهاية في “منظومة المادة” العالمية.
الخلاصة النهائية لقلبك المطمئن
أختي فاطمة، كوني رحيمة بقلبك، أحسني إلى الناس، تألمي لمصابهم، ساعدي المحتاج منهم، وكوني خير مثال للمسلمة الخلوقة؛ فهذا هو “البر” الذي أمرك الله به.
لكن عندما تصل القضية إلى “علاقة العبد بخالقه ومآله في الجنة والنار”، فتوقفي بأدب وتفويض عند حدود الله.
اعلمي أن الله ليس بحاجة لدعواتنا ليرحم من يستحق الرحمة، وهو سبحانه “لا يظلم مثقال ذرة”.
فمن لم تبلغه الدعوة أو كان له عذر، فحسابه عند ربه (أهل الفترة)، أما من قامت عليه الحجة فالله أعلم به.
إن طاعتنا لله في منع الترحم هي بحد ذاتها “عبادة” نثبت بها أن الله أغلى عندنا من عواطفنا، وأن ميثاق “لا إله إلا الله” هو أقدس رباط في الوجود.
أختي الكريمة، استودعي هؤلاء الضحايا عدل الله الذي لا يظلم أحداً، وانشغلي بالدعاء لنفسك وللمسلمين بالثبات، فالموت يأتي بغتة، والعبرة دائماً بالخواتيم.
فالحمد لله الذي جعل لنا ميزاناً من الوحي لا تزيغ به الأهواء، ولا تتقاذفه أمواج العواطف القاصرة، وصلى الله وسلم على نبي الرحمة الذي علمنا متى نرحم ومتى نلتزم بحدود العزيز الحكيم.

