عائشة تسأل: ابنتي سالتني هي في عمر عشر سنوات سالت لماذا الله لا يظهر لنا فلو ظهر وراه الكفار سيدخل الايمان قلوبهم
أهلاً بكِ يا أختي الكريمة عائشة، وحياكِ الله وبياكِ، وبارك الله فيكِ وفي ابنتكِ الصغيرة الذكية التي تسأل أسئلة تدل على فطرة نقية وعقلٍ متفتح يبحث عن الحقيقة. إنّ مثل هذه التساؤلات من الأطفال في هذا العمر هي فرصة عظيمة لغرس أصول الإيمان بعمق وحكمة، لا سيما ونحن نعيش في عصرٍ كثرت فيه المشتتات والشبهات.
لقد أحسنتِ يا أختي بسؤالكِ، فمشاعركِ تجاه حيرة ابنتكِ مقدرة تماماً، وكثير من الأمهات يجدن صعوبة في تبسيط هذه الحقائق الكبرى لأطفالهنّ. لكن دعيني أطمئنكِ؛ فالإسلام يملك إجابات باهرة وشافية لكل هذه التساؤلات، وهي إجابات لا تقنع العقل فحسب، بل تملأ القلب طمأنينة ويقيناً.
اسمحي لي أن أبسط لكِ ولابنتكِ الغالية هذا الجواب في نقاط مفصلة، تليق بعظمة الخالق وبراءة تساؤل الطفلة، متبعاً في ذلك منهج القرآن الكريم والسنة النبوية والعقل الصريح.
أولاً: كمال الله وعظمة نوره (قوة لا تحتملها العيون)
بدايةً يا ابنتي الغالية، يجب أن نفهم من هو “الله”. الله سبحانه وتعالى ليس كالبشر، وليس كأي شيء نراه في هذا الكون. هو خالق كل شيء، وعظمته لا حدود لها. ولكي نبسط الفكرة، دعينا نتأمل في الشمس التي خلقها الله؛ هي مخلوق بسيط من مخلوقاته، ومع ذلك، هل يستطيع أحد منا أن ينظر إليها مباشرة بعينيه في وضح النهار؟ بالطبع لا! فالعين البشرية ضعيفة جداً أمام ضوء الشمس، وإذا حاول شخص أن يحدق فيها طويلاً فقد يصاب بالعمى.
فإذا كانت الشمس، وهي مجرد “مصباح” صغير في ملكوت الله، لا تقوى أعيننا على رؤيتها، فكيف بعظمة الخالق الذي خلق ملايين الشموس والمجرات؟ الله سبحانه وتعالى “نور السماوات والأرض”، وحجابه النور، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أي جلاله ونوره) ما انتهى إليه بصره من خلقه [رواه مسلم في صحيحه، رقم 179].
إذن، عدم رؤيتنا لله في الدنيا ليس “نقصاً” في ظهور الله، بل هو “ضعف” في أعيننا نحن كبشر في هذه الحياة الدنيا. لقد خلقنا الله بأجساد لها حدود، لا تتحمل رؤية نوره العظيم الآن، تماماً كما أن الطفل الصغير لا يتحمل حمل جبلٍ ثقيل، ليس لأن الجبل فيه مشكلة، بل لأن الطفل ما زال جسده ضعيفاً.
ثانياً: الدنيا دار “اختبار” والآخرة دار “رؤية”
يا ابنتي العزيزة، الله سبحانه وتعالى جعل هذه الحياة الدنيا مثل “الامتحان”. وفي أي امتحان في المدرسة، هل يضع المعلم الإجابات أمام الطلاب على السبورة؟ لا طبعاً، وإلا لما صار امتحاناً، ولتساوى الطالب المجتهد الذي فكر وتعب مع الطالب الكسول.
الله سبحانه يريد منا أن نستخدم عقولنا وقلوبنا لنعرفه من خلال “آثاره” ورسائله التي تركها لنا في كل مكان. المؤمن هو الذي يرى نظام الكون، وجمال الأزهار، ودقة خلق الإنسان، فيقول بيقين: “لا بد لهذا الجمال من خالق عظيم”، فيؤمن بالله حباً وشوقاً.
لو ظهر الله للناس عياناً، لما بقي هناك فضل للمؤمن على الكافر؛ لأن الجميع حينها سيؤمنون “إجباراً” لا “اختياراً”. الله يريد حباً نابعاً من القلب، واعترافاً نابعاً من العقل، وهذا هو “الإيمان بالغيب” الذي مدح الله به المؤمنين في أول سورة البقرة: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3].
أما الرؤية الحقيقية، فهي “الجائزة الكبرى” التي خبأها الله للمؤمنين في الجنة. هناك، سيغير الله خلقنا، وسيعطينا أجساداً قوية وعيوناً قادرة على تحمل رؤية نوره الكريم، وسيكون ذلك أعظم نعيم أهل الجنة على الإطلاق. قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23].
ثالثاً: قصة موسى عليه السلام (درس في عظمة الخالق)
دعينا نخبر ابنتكِ قصة جميلة حدثت مع نبي الله موسى عليه السلام، وهو “كليم الله”. في لحظة شوق عظيمة، سأل موسى ربه قائلاً: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾. كان يريد أن يرى الله حباً وشوقاً.
فبماذا أجابه الله؟ قال له: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾؛ أي لن تستطيع عيناك البشريتان في الدنيا أن تحمل رؤيتي. ولكن لكي يعلم موسى سبب المنع، قال له الله: ﴿وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾.
ماذا حدث؟ ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]. تأملي يا ابنتي؛ الجبل العظيم القوي الصامد، لم يتحمل أن “يتجلى” الله له، فصار غباراً من هيبة الله وعظمته، وموسى عليه السلام سقط مغشياً عليه من هول الموقف.
هذا يوضح لنا أن المانع هو “طبيعة خلقنا” المحدودة، وليس لأن الله لا يريد أن يظهر لنا، بل هو يحمينا برحمته لأن أجسادنا لا تحتمل ذلك الآن.
رابعاً: هل رؤية العين هي الطريق الوحيد للإيمان؟
هنا نقطة مهمة جداً لابنتكِ الذكية. نحن نؤمن بأشياء كثيرة جداً رغم أننا لا نراها أبداً.
هل نرى “العقل” الذي نفكر به؟ لا، لكننا نرى أثره في الذكاء والحلول.
هل نرى “الكهرباء” التي تنير المصباح؟ لا، لكننا نرى أثرها في النور والحرارة.
هل نرى “الجاذبية” التي تمسكنا على الأرض؟ لا، لكننا نرى أثرها في سقوط الأشياء.
هل نرى “الريح”؟ لا، لكننا نرى تمايل الأشجار.
فإذا كان العلم الحديث يؤمن بوجود “الذرات” و”الثقوب السوداء” وأشياء غيبية كثيرة بناءً على “آثارها”، فكيف لا نؤمن بالخالق العظيم الذي نرى آثاره في كل ذرة من ذرات الكون؟ إن عدم الرؤية لا يعني عدم الوجود، بل قد يعني شدة الظهور لدرجة تعجز معها الأبصار، كما يقال: “من شدة الظهور الخفاء”؛ أي أن الله ظاهر جداً في كل شيء لدرجة أن عيوننا التي اعتادت الأشياء المادية لا تستوعب هذا الظهور العظيم.
خامساً: هل حقاً سيؤمن الكفار لو رأوا الله؟
أما قول ابنتكِ الغالية “لو ظهر ورآه الكفار سيدخل الإيمان قلوبهم”، فهذا ظنٌ نابع من براءتها، لكن الواقع والتاريخ والقرآن يخبروننا بشيء آخر.
الكفر في كثير من الأحيان ليس “نقصاً في الأدلة”، بل هو “كبر وعناد” في القلوب. انظري إلى فرعون؛ لقد رأى المعجزات العظيمة بعينيه، رأى البحر ينشق نصفين ويصير كالجبل العظيم، هل آمن؟ لا، بل طمع في اللحاق بموسى! ولم يؤمن إلا وهو يغرق، حيث لم يعد للإيمان قيمة حينها.
أخبرنا الله تعالى عن الكفار أنهم حتى لو فُتح لهم باب من السماء وظلوا يعرجون فيه ويرون الملائكة والآيات عياناً، لقالوا: ﴿إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: 15]. أي أنهم سيتهمون أعينهم بأنها سُحرت ولن يؤمنوا.
الإيمان هو “استجابة القلب للحق”، وليس مجرد “رؤية العين”. هناك من رأى النبي ﷺ بعينيه، وجلس معه، ورأى المعجزات، ومع ذلك مات كافراً كأبي جهل. وهناك من لم يرَ النبي ﷺ، ويفصل بينه وبيننا 1400 عام، ومع ذلك يحبه ويفديه بروحه. إذن المشكلة ليست في “الرؤية”، بل في “القلب”.
سادساً: رسائل الله إلينا (كيف نعرفه دون أن نراه؟)
يا ابنتي، الله يظهر لنا في كل يوم بطرق أخرى، فهو يرسل لنا “رسائل” واضحة:
القرآن الكريم: هو كلام الله، فيه حكمة لا يمكن لبشر أن يأتي بها، وهذا أكبر دليل على وجود المتحدث بهذا الكلام.
استجابة الدعاء: عندما تطلبين من الله شيئاً في قلبكِ ويتحقق بطريقة مدهشة، أليس هذا شعوراً بوجوده معكِ؟
الفطرة: شعورنا بالسكينة عندما نصلي، وشعورنا بالخوف عندما نخطئ، هي بوصلة داخلنا وضعها الله لتدلنا عليه.
إن الله يريد منا أن نكون “أذكياء”؛ نعرف الصانع من خلال الصنعة، والرسام من خلال اللوحة. هذا هو الإيمان الراقي الذي يرفع منزلة الإنسان.
نصيحة ختامية لكِ ولابنتكِ
أختي عائشة، قولي لابنتكِ: إن الله يسمع نبض قلبها، وهو أقرب إليها من حبل الوريد. قولي لها إننا في رحلة، ونحن الآن في “محطة الاختبار”، ومن ينجح في معرفة الله بقلبه وعقله في هذه المحطة، سيكافئه الله في المحطة الأخيرة (الجنة) بأن يجعله يراه عياناً، فيكون أجمل لقاء في الوجود.
علميها أن تشتاق لرؤية الله، وأن تعمل الأعمال الصالحة لكي تفوز بتلك الجائزة. فالمؤمن يعيش في الدنيا يشعر بوجود الله معه بقلبه، مما يجعله قوياً وشجاعاً ومنصفاً.
ختاماً، اسألي الله دائماً أن يثبت قلبها على الإيمان، وكوني صبورة مع أسئلتها، فالشك الصغير إذا وجد جواباً حكيماً تحول إلى يقين عظيم يبني شخصية صلبة لا تهزها الرياح.
واعلمي يا أختي أن هذا الفضول الفطري هو بذرة خير، فاسقيها بماء العلم والرفق والحكمة، لترينها غداً نخلة باسقة من نخلات الإيمان.
بارك الله فيكِ وفي ذريتكِ، وجعلنا وإياكم ممن قال فيهم: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، والحسنى هي الجنة، والزيادة هي رؤية وجه الله الكريم.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

