وصلنا هذا السؤال عبر بوت تليجرام: اخي ما تقول في خوارج وداعش الان لن في هناك تحصل مشاكل حول الفكر التي تحمل هذا الجماعه وهناك من يقول انها صناعه استخباراتي غربية
والجواب كالآتي:
أهلاً بك أيها الأخ السائل، لقد وضعت يدك على واحدة من أكثر القضايا إيلاماً وتشويهاً لواقعنا المعاصر، وهي قضية “تنظيم الدولة” (داعش) وما التصق بها من مفاهيم “الخوارج” أو “الصناعة الاستخباراتية”. إن الجواب عن هذا لا يصح أن يكون عاطفياً مجرداً، بل يجب أن يكون تشريحاً معرفياً يغوص في جذور الفكرة وبنيتها وتاريخها، لنميز بين “المنبت” وبين “التوظيف”، وبين “الحكم العقدي” وبين “الوصم السياسي”.
أولاً: كشف المنطلق
إن أول ما يجب أن ندركه هو أن ظهور مثل هذه الجماعات ليس “فتحاً إسلامياً” كما زعموا، ولا هو “صدفة محضة” كما قد يتصور البعض. إنها نبتة سُقيت بماء الظلم والقهر الذي تعرضت له الشعوب المسلمة في العقود الأخيرة، لكنها نبتت في تربة من “الجهل المركب” بنصوص الشريعة ومقاصدها.
الشبهة التي تحوم حولهم تتأرجح بين طرفين: طرف يراهم “الممثل الوحيد للإسلام الصافي”، وطرف يراهم “مجرد دمى في يد المخابرات”. والحقيقة التي يقررها المنهج العلمي أنهم “منهج منحرف” في أصله، لكنه “مخترق وظيفياً” في مآلاته. إنهم يوفرون للعدو “الذريعة الأخلاقية” التي كان يحلم بها ليبيد مدن المسلمين تحت شعار “محاربة الإرهاب”، وهذا هو عين ما حذر منه العقلاء؛ أن يكون المرء “أحمقاً مطاعاً” يخدم عدوه وهو يظن أنه يحسن صنعاً.
ثانياً: التوصيف المنهجي.. هل هم “خوارج”؟
إن وصف “الخوارج” في التاريخ الإسلامي ليس شتيمة سياسية نلقيها على كل من خالفنا، بل هو توصيف عقدي دقيق له أركان. وإذا أردنا محاكمة “داعش” إلى هذا الميزان، نجد أنهم استبطنوا “روح الخروج” وإن اختلفوا في بعض التفاصيل التاريخية.
1. الاستهانة بالدماء: إن جوهر انحراف الخوارج قديماً كان استباحة دم المخالف، وهذا ما رأيناه في أبشع صوره مع هذا التنظيم. لقد جعلوا “الذبح” وسيلة دعائية، متجاهلين قول النبي ﷺ: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» [رواه البخاري في صحيحه].
2. الغلو في التكفير: لقد بنى هذا التنظيم منهجه على “التكفير بالتسلسل” و”التكفير باللوازم”، فكفروا الحكام، ثم الجيوش، ثم من يعمل في مؤسسات الدولة، وصولاً إلى تكفير علماء وعوام المسلمين الذين لا يبايعونهم. وهذا هو عين مسلك “الأزارقة” من غلاة الخوارج قديماً.
3. مخالفة إجماع الأمة: إن “الخلافة” في الإسلام ليست تنظيماً سرياً يعلن عنه في سرداب، بل هي “عقد شرعي” يلزمه رضا الأمة وشوراها. وما فعله هؤلاء هو “اغتصاب للسلطة” وتسميتها خلافة، وهو ما أدى إلى تشويه أعظم مفهوم سياسي في الإسلام وتحويله إلى كابوس يهرب منه الناس.
ومع ذلك، ينبغي الحذر من استعمال وصف “الخوارج” كأداة بيد الأنظمة الظالمة لتجريم كل من ينكر المنكر أو يطالب بالعدل. ففرق كبير بين “المصلح” الذي ينكر الظلم وبين “الغالي” الذي يستبيح الدماء.
ثالثاً: “الصناعة الاستخباراتية”.. بين الواقع والتوظيف
يسأل الكثيرون: “هل داعش صناعة غربية؟”. الجواب يحتاج إلى دقة:
لا يمكن القول إن آلاف الشباب الذين قتلوا أنفسهم كانوا جميعاً “عملاء للمخابرات”، فهذا تسطيح للواقع. لكن يمكن القول بيقين إن هذا التنظيم هو “هدية استخباراتية” للقوى الدولية.
* التوظيف الوظيفي: عندما يخرج تنظيم يقتل المسلمين، ويفجر المساجد، ويشوه صورة الإسلام عالمياً؛ فإن المخابرات الدولية لا تحتاج إلى “تأسيسه” من الصفر، بل يكفيها “اختراقه من الأعلى”، وتوجيه مساره، وتسهيل حركته في أماكن معينة لضرب قوى المقاومة الحقيقية أو لإيجاد مبرر للتدخل العسكري.
* تفريغ الساحة: لقد عمل التنظيم على “تصفية” القادة المخلصين في الثورات الشعبية، فكانوا يقتلون “المجاهد المرابط” ويتركون “النظام الطاغية”، مما يثبت أن بوصلتهم لم تكن يوماً شرعية خالصة، بل كانت بوصلة “تدميرية” تخدم في النهاية من يريد بقاء الاستبداد وتفتيت المنطقة.
* خلق “البعبع”: الغرب يحتاج دائماً إلى “عدو” ليبرر نفقاته العسكرية وهيمنته. وداعش كانت “العدو المثالي”؛ فهي تمتلك من البشاعة ما يجعل العالم يرضى بأي قصف وأي احتلال مقابل الخلاص منها.
رابعاً: هدم المنطلق العقدي (جذر الانحراف)
إن الخلل الكبير في فكر هذه الجماعات يكمن في “تأليه الوسيلة”. لقد جعلوا “الجهاد” غاية في حد ذاته، بينما الجهاد في الإسلام وسيلة لحفظ الدين والنفس. إنهم يقرؤون نصوص “الوعيد” ويتركون نصوص “الرحمة”، ويأخذون بـ “المتشابه” ويتركون “المحكم”.
تأمل معي هذا التناقض الصارخ: يرفعون شعار “الحاكمية لله”، ثم يمارسون أبشع صور “الحاكمية للبشر” عبر فرض آرائهم الشاذة على الناس بقوة السلاح، وقتل من لا يرى رأيهم. إنهم لم يحكموا بما أنزل الله في الدماء والأعراض والشورى، بل حكموا “بشهوة السلطة” مغلفة بنصوص مبتورة.
لقد وقعوا في “مغالطة المنحدر الزلق”؛ فبدؤوا بإنكار ظلم الحكام، ثم كفروا الأنظمة، ثم كفروا العلماء ثم كفروا العامة ثم استحلوا الدماء، ثم انتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا خنجراً في ظهر الأمة المسلمة.
خامساً: البديل الفاشل والنتائج الكارثية
بدلاً من أن نكتفي بالدفاع، دعنا نحاكم “المشروع” الذي قدمه هؤلاء. ماذا قدمت داعش للأمة الإسلامية؟
* هل حرروا شبراً من فلسطين؟ لا، بل كانوا يقولون “قتال المرتدين أولى من قتال الكفار”، والمرتدون عندهم هم كل من خالفهم!
* هل أقاموا نموذجاً اقتصادياً أو علمياً؟ لا، بل أقاموا “اقتصاد النهب” وسبي النساء.
* هل وحدوا كلمة المسلمين؟ لا، بل كانوا أكبر سبب لتفرق الكلمة واستباحة الديار.
إن البديل الذي قدموه هو “العدمية المغلفة بالدين”. بينما الإسلام جاء ليخرج الناس من “ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”، جاء هؤلاء ليضيقوا على الناس حتى أنفاسهم، فكانوا فتنة للمسلمين في دينهم، وفتنة للكفار عن الدخول في الإسلام.
سادسًا: فقه الشجاعة: بين عمارة القلوب وخراب الديار
هناك من يثني على شجاعة شباب داعش ويقولون هؤلاء يضحون بحياتهم في سبيل الله!
الشجاعة في ميزان الإسلام هي “قوة القلب عند البأس لخدمة الحق”، وليست غريزة عمياء للقتل أو الموت. لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أشجع الناس، لكن شجاعتهم كانت محكومة بقوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾.
المفارقة المؤلمة: أن هذا الشاب الذي يملك جرأة على الموت، لو استثمر هذه الجرأة في الصبر على طلب العلم، أو في السفر للدعوة في مجاهل أفريقيا، أو في اتقان ثغر من ثغور التقنية والبحث العلمي لنصرة المسلمين، لكان نفعُه للأمة أعظم بآلاف المرات من “انفجار” ينتهي في ثوانٍ ولا يترك خلفه إلا أشلاءً وتشويهًا للدين.
2. قتل النفس مقابل إحياء النفوس
الإسلام جاء لـ “إحياء” الخلق لا لإبادتهم. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
المسار الضائع: إن الشجاعة الحقيقية اليوم هي في “اقتحام عقول الناس بالحق”، وتفكيك شبهات الإلحاد، وإظهار محاسن الإسلام للأمم التائهة. هذا المسار يتطلب شجاعة “نفس طويل” وصبرًا ومصابرة، وهو أصعب بمراحل من التخلص من الحياة في لحظة انفعالية. إن الأمة لا تحتاج إلى “جنائز” جديدة، بل تحتاج إلى “رواد” يعيدون لها هيبتها بعلمهم وأخلاقهم.
3. خسارة الكوادر البشرية (الاستنزاف الذاتي)
تلك الجماعات تمارس عملية “انتحار حضاري” للأمة؛ فهي تأخذ أنقى الشباب حماسةً وأقواهم شكيمةً، ثم تضعهم في “مطحنة” لا تنتج إلا دماراً لمجتمعات المسلمين.
لو عقلوا: لو استُغلت هذه الروح الوثابة في بناء مؤسسات دعوية وإعلامية جبارة، لكان للإسلام اليوم صوتٌ يهز أركان الأرض بالمنطق والحجة. إنهم يقتلون “المشاريع القوية” داخل هؤلاء الشباب قبل أن تنضج، ويحولونهم من “بناة حضارة” إلى “وقود فتن”.
4. كسر حاجز الصد عن سبيل الله
أكبر جريمة يرتكبها من يفجر نفسه في تجمعات الناس هي أنه يضع “سداً منيعاً” بين الناس وبين الدخول في الإسلام.
قاعدة ذهبية: إن شجاعة الداعية في “تحمل الأذى لإيصال النور” أعظم عند الله من “إيقاع الأذى لإزهاق الأرواح”. النبي ﷺ كان يملك من الشجاعة ما يواجه به جيوشاً، ومع ذلك قال: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم». هؤلاء عكسوا الآية؛ فبدلاً من أن يكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر، صاروا بشجاعتهم المنحرفة صِداماً مع الفطرة البشرية، مما جعل العوام ينفرون من “اسم الإسلام” فضلاً عن الدخول فيه.
النتيجة النهائية في هذا الباب
إن هؤلاء الشباب هم ضحايا “غسيل دماغ” انتزع منهم روح الرحمة والاتساع، وأبقى لهم فقط طاقة الانفجار. الشجاعة بلا علم هي “عمى”، وبلا رحمة هي “وحشية”. ولو أنهم وجهوا تلك القوة النفسية لترميم ما أفسده الغزو الفكري، أو لتعريف التائهين برب العالمين، لكانوا “دروعاً للأمة” بحق، لا خناجر في خاصرتها.
الشجاعة التي لا تحقن دماً ولا تبني صرحاً ولا تهدي حائراً هي شجاعة وهمية، وأي نصر يُزعم تحقيقه عبر أشلاء الأبرياء هو في الحقيقة هزيمة نكراء للمشروع الإسلامي وتشويه لجمال هذا الدين. إن الأمة اليوم لا تفتقد “الأجساد التي تموت”، بل تفتقد “العقول التي تحيا” لتنشر النور في دياجير الظلام.
الخلاصة النهائية
إن تنظيم “داعش” وأخواته هم ثمرة “تلاقح شائه” بين “غلو داخلي” و”مكر خارجي”. إنهم ليسوا “الإسلام”، بل هم “المرض” الذي أصاب جسد الأمة نتيجة ضعف المناعة العلمية والسياسية.
وعلينا أن ندرك أن مواجهة هذا الفكر لا تكون فقط بالطائرات، بل بـ “العلم الراسخ” الذي يفكك شبهاتهم، وبـ “العدل الحقيقي” الذي يرفع الظلم عن الشعوب فلا يجد الشباب المحبط ملجأً في هذه المحاضن المنحرفة.
واعلم يا أخي أن الحق أبلج، وأن السُنة هي “سفينة نوح”؛ من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في بحار الغلو أو مستنقعات الانحلال. إن هذا الدين متين، ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه، وهؤلاء الذين شادّوا الدين بجهلهم وظلمهم، ذهبوا وبقي الإسلام شامخاً بحجته وعدله ورحمته.
فارفع رأسك بيقينك، ولا تهزّنّك هذه العواصف العابرة، فإنما هي تمحيص ليميز الله الخبيث من الطيب، والعاقبة دائماً للمتقين، والحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

