يستمر إيلون ماسك في هجومه على المغتربين ويدعي أن المهاجرين في الغرب خصوصا المسلمين سبب مشاكل الغرب وتعثره وينشر الأكاذيب لإلصاق تهمة السقوط الغربي بالمغتربين.
ادعاءات إيلون ماسك، وغيره من أقطاب المنظومة الغربية المعاصرة، بأن المهاجرين -والمسلمين منهم على وجه الخصوص- هم سبب تعثر الغرب ومشاكله، ليست في حقيقتها إلا محاولة “تفسير بائسة” للهروب من استحقاقات الانهيار الداخلي الذي يعيشه النظام الليبرالي المادي.
إنها مغالطة “تحميل المسؤولية للضحية” (Scapegoating)، حيث يُتخذ المهاجر “شماعة” تُعلق عليها خطايا قرون من الاستعمار، وعقود من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي نخرت عظام الحضارة الغربية من الداخل قبل أن تطأ قدم أول مهاجر مسلم تراب بلادهم في العصر الحديث.
إيلون ماسك، الذي لم يولد في “تكساس” ولا في “نيويورك”، بل قطع المحيطاتِ مهاجراً من جنوب إفريقيا ليحقق “حلمه” في بلادٍ قامت أصلاً على أكتافِ المهاجرين، ينسى اليومَ أصله ويتقمصُ دور “حارس البوابة” المتشدد.
إن هذه الظاهرة هي ما نُسميه في علمِ النفس والاجتماع “سُلم الصعود المحروق”؛ حيث يصعدُ المهاجرُ الموفقُ إلى القمة، ثم يسحبُ السلمَ خلفه لكي لا يلحقَ به الآخرون، بل ويبدأُ في اتهام من هم في أسفل السلم بأنهم “عبء”.
تزييف الوعي وصناعة “العدو المتخيَّل”
إن أول ما ينبغي للبيب التفطن له في خطاب ماسك هو أنه ينطلق من “مركزية الرجل الأبيض” التي ترى في العالم مجرد ساحة خلفية لرفاهيته، فبينما يتباكى هؤلاء على “تعثر الغرب”، يتناسون أن هذا التعثر هو نتاج طبيعي لنموذج حضاري قام على “تأليه المادة” وتهميش الروح، مما أدى إلى أزمات بنيوية لا علاقة للمهاجرين بها.
المهاجر المسلم الذي يتحدث عنه ماسك، لم يذهب إلى الغرب طالباً للرفاهية المجردة في كثير من الأحيان، بل ذهب فاراً من واقعٍ أسهم الغرب نفسه في صناعته؛ عبر الانقلابات العسكرية، والحروب العبثية، والنهب المنظم للثروات.
الحضارة الغربية التي تتشدق اليوم بالحقوق، هي التي أبادت شعوباً بأكملها لتبني نهضتها، وما نراه اليوم من هجرة هو مجرد “ارتداد للأثر”؛ فمن ينهب بيت جاره، لا يلوم الجار إذا لجأ إلى بيته بحثاً عن فتات خبزه المسلوب.
الانتحار الديموغرافي: حين يقتل الغرب نفسه
يدعي ماسك أن المهاجرين يهددون الهوية الغربية، بينما الحقيقة العلمية والواقعية تقول إن الغرب يعيش حالة “انتحار ديموغرافي” طوعي. إن النموذج المادي الغربي الذي قدّس “اللذة الفردية” و “التحلل من قيود الأسرة” باسم الحرية، أدى إلى انخفاض حاد في معدلات المواليد لدرجة أن بعض الدول الأوروبية أصبحت “مجتمعات هرمة” غير قادرة على تجديد نفسها.
انهيار الأسرة: لقد أدى تفكيك مفهوم الأسرة التقليدية إلى عزوف الشباب عن الزواج والإنجاب، فصارت القطة والكلب بديلاً عن الطفل، وهذا “ثقب أسود” في بنية الدولة لا يسده إلا المهاجرون.
الحاجة للعمالة: لولا هؤلاء المهاجرون الذين يذمهم ماسك، لانهارت أنظمة التقاعد، وتوقفت المصانع، وخلت المستشفيات من الكوادر؛ فالمهاجر المسلم اليوم هو المهندس والطبيب والعامل الذي يدفع ضرائبه لتمويل رفاهية المواطن الغربي المتقاعد.
الفراغ القيمي: المشكلة ليست في “كثرة المهاجرين”، بل في “فراغ الغرب” من قيمٍ تجذب شعبه للبقاء والاستمرار، فالإلحاد والعبثية التي يروج لها الفكر المادي لا تصنع مستقبلاً، بل تصنع عدماً.
الأزمة الاقتصادية وسطوة الربا
يتحدث ماسك عن “تعثر الغرب” ويتجاهل أن السبب الحقيقي هو النظام المالي القائم على “الربا” والدين اللانهائي. إن الاقتصاد الغربي يعيش في “فقاعة” من الورق، حيث تتركز الثروات في يد 1% من الناس (وإيلون ماسك منهم)، بينما يعاني عامة الشعب من التضخم وتآكل القوة الشرائية.
الربا كأداة سحق: كما بينتُ في قواعد الاقتصاد الإسلامي، فإن الربا يمحق البركة ويؤدي إلى تركيز الثروة وتعطيل الإنتاج الحقيقي، الغرب يتعثر لأنه غارق في ديونٍ لا يمكن سدادها، ولأن نظامه المصرفي قائم على المقامرة لا على التنمية.
الجشع الرأسمالي: الشركات الكبرى التي يمثلها ماسك هي التي نقلت مصانعها إلى الخارج بحثاً عن عمالة رخيصة، وهي التي تتهرب من الضرائب، ثم تأتي اليوم لتلوم المهاجر “الفقير” على تدهور الخدمات العامة! هذه مغالطة “الرجل القش” بامتياز؛ يهاجمون الضعيف ليواروا سوأة القوي.
لماذا يستهدفون المسلمين تحديداً؟
إن تركيز ماسك على “المسلمين” يكشف عن ذعرٍ دفين من “الهوية الصلبة”. المهاجر المسلم هو الوحيد الذي يدخل المجتمع الغربي ويحمل معه “نظاماً قيمياً” متكاملاً، فهو يرفض الذوبان في سيولة “ما بعد الحداثة”، ويتمسك برابطة الأسرة، ويحافظ على شعائره.
هذا “التميز الشعوري” هو ما يزعج المنظومة الغربية؛ لأنها تريد “مستهلكاً منمطاً” بلا دين ولا هوية، يسهل التحكم فيه وسلبه ماله وقيمه. المسلم بصراعه مع الشبهات وثباته على عقيدته يمثل “جسماً غريباً” يرفض التحلل في حمض المادية الكاوية، ومن هنا تأتي الهجمة الشرسة لتصويره كعدو، بينما هو في الحقيقة “طوق نجاة” أخلاقي لو أنصفوا.
إذا كان المهاجرون هم سبب التعثر، فلماذا يعيش الغرب أزمات حادة في قطاعات لا يدخلها المهاجرون إلا نادراً؟ ولماذا كانت الأزمات المالية الكبرى (كأزمة 2008) نتاجاً لعقليات “وول ستريت” البيضاء وليست نتاجاً للمهاجرين المسلمين؟
تناقض ماسك: إيلون ماسك نفسه مهاجر (من جنوب أفريقيا)، وشركاته تعتمد على عقولٍ من كل الجنسيات، فهو يستغل “المهاجر المتميز” لبناء ثروته، ثم يهاجم “المهاجر العام” لدغدغة مشاعر اليمين المتطرف وتحقيق مكاسب سياسية.
فساد البديل: ما هو البديل الذي يطرحه ماسك؟ هو مزيد من “الرقمنة”، ومحاولة تحويل الإنسان إلى “آلة” (Transhumanism)، والهروب إلى المريخ. هذا ليس حلاً، بل هو هروبٌ للأمام من واقعٍ أدرك الجميع بطلانه.
الحقيقة المرة: الغرب يتعثر لأنه فقد “البوصلة الأخلاقية”، ولأنه حارب الفطرة البشرية، ولأنه ظن أن العلم التجريبي والقوة العسكرية كافيان لقيادة البشرية دون وحي إلهي.
المهاجر المسلم: بريءٌ من تهمة “الفشل الغربي”
الحقيقة التي يتهرب منها ماسك هي أن المسلمين في الغرب هم من أكثر الفئات حيوية، فبينما يغرق الشباب الغربي في المخدرات، والعدمية، والارتباك الجندري، نجد الشباب المسلم -في الجملة- يحافظ على توازنه النفسي بفضل دينه، ويسعى للنجاح الأكاديمي والعملي، ويسهم في بناء المجتمع.
التعثر الغربي هو “عقوبة قدرية” لنظامٍ طغى وبغى، ونشر الرذيلة في الآفاق، واستعبد الشعوب باسم الحرية، وما نراه من صعود للخطاب العنصري ضد المهاجرين هو مجرد “سكرات موت” لهيمنةٍ قطبية بدأت تتهاوى أمام حقائق التاريخ وسنن الله في الخلق.
الخلاصة النهائية
إن ادعاءات ماسك تهافتت عرقاً ومنطقاً؛ فالغرب يتعثر بيده لا بيد المهاجرين، والخلل في “الرأس” (القيادة والمنهج) لا في “الأطراف” (المهاجرين والعمال). المسلمون هم ضحايا السياسات الغربية في بلادهم، وضحايا العنصرية الغربية في مهجرهم، ومع ذلك يبقون متمسكين بالحق الذي معهم.
تعثر الغرب سببه “إفلاسٌ قيمي” وانتحارٌ ديموغرافي وجشعٌ رأسمالي، أما المهاجرون فما هم إلا مرآة كشفت سوأة هذا النظام وعجزه عن استيعاب “الآخر” الذي صنع هو بنفسه أسباب مجيئه.

