إن هذا الطرح الذي يتفوه به بعض المنتسبين لدنيا المال أو الفن، ممن يحاولون الخوض في غمار الفكر والدين بغير أدوات، ليس في حقيقته “اكتشافاً عقلياً”، بل هو اجترار لمغالطات منطقية قديمة، تهدف في جوهرها إلى تمييع مفهوم “التكليف” وتحويل الإنسان من كائن مكرّم مأمور إلى مجرد كائن بيولوجي منسحق تحت وطأة الطبيعة.
تخليص مجمل: تهافت المنطق الاستهلاكي أمام جلال التكليف
إن القول بأن “لو أراد الله شيئاً لخلقه فينا جبلّة” هو انتحار عقلي كامل، وهدم لأصل الوجود الإنساني القائم على الاختبار والابتلاء. هذا المنطق لا يسقط الحجاب وحده، بل يسقط الحضارة والطب والتعليم والقانون؛ إذ لو اتبعناه لوجب علينا البقاء عراة، جهلاء، مرضى، بحجة أن الله “لو أراد لنا غير ذلك لخلقنا به”. إن الحجاب ليس “خلقة” بل هو “أمر”، والفرق بين الإرادة الكونية (الخلق) والإرادة الشرعية (الأمر) هو مفرق الطريق بين العقل الرصين والهوى المتخبط.
المرحلة الأولى: الهدم المنطقي – مغالطة “المنشأ الطبيعي” وانتحار العقل
حين نضع كلام ساويرس تحت مبضع التشريح المنطقي، نجد أنه يتبنى ما يُعرف بـ “مغالطة الاحتكام إلى الطبيعة”، وهي مغالطة تفترض أن كل ما هو “طبيعي” فهو حق، وكل ما هو “مكتسب” فهو باطل أو غير مراد إلهياً.
لنتماشى مع هذا المنطق “الساويرسي” لنرى أين سيقودنا:
في العري: بما أن الله خلقنا عراة، ولم يخلقنا بـ “بذلات رسمية” ولا “فساتين سهرة”، فبناءً على منطقه، ارتداء الملابس هو “اعتراض على إرادة الله”! فلماذا يرتدي ساويرس أفخر الثياب؟ لو أراد الله له أن يكون “شيك” لخلقه بقميص وكرافتة!
في التعليم: الله خلقنا لا نعلم شيئاً {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. فهل بناءً على هذا المنطق، يعد بناء المدارس والجامعات “تجاوزاً” لمشيئة الله؟ لو أرادنا الله علماء لخلقنا نحمل شهادة الدكتوراه في جيناتنا!
في الطب: الله خلقنا عرضة للمرض والجراثيم. فهل تناول الدواء أو إجراء الجراحة هو محاولة “لتغيير إرادة الله”؟ لو أرادنا الله أصحاء لما خلق فينا الضعف!
في البيزنس (وهو ملعبه): لو أراد الله لنجيب ساويرس أن يكون مليارديراً، لخلقه وفي جيبه مليارات الدولارات! لماذا يتعب في الصفقات والعمل؟ هل يحاول “فرض” الثراء على نفسه بينما خلقه الله فقيراً لا يملك درهماً عند ولادته؟
إن هذا المنطق يسحق مفهوم “الإنسانية” ذاته؛ لأن ميزة الإنسان الكبرى هي “تجاوز الضرورة الطبيعية بالوحي والعقل”. الحيوان هو الوحيد الذي يعيش “كما خُلق” تماماً، بلا لباس، وبلا قانون، وبلا تكليف. فهل يريد ساويرس رد الإنسان إلى الرتبة الحيوانية؟
المرحلة الثانية: التأصيل المعرفي – الفرق بين “الإرادة الكونية” و”الإرادة الشرعية”
الإشكال الجذري في هذا الطرح هو الجهل المطبق (أو التجاهل المتعمد) للفرق بين نوعين من الإرادة الإلهية:
الإرادة الكونية القدرية: وهي ما خلقه الله فينا ولا خيار لنا فيه (الطول، لون البشرة، الجوع، العطش). وهذه لا يُحاسب عليها الإنسان.
الإرادة الشرعية الدينية: وهي ما “أمر” الله به ليختبر طاعة العبد (الصلاة، الصدق، العفة، الحجاب). وهذه هي جوهر “التكليف”.
الله لم يخلقنا بالحجاب، كما لم يخلقنا مصلين، ولا صائمين، ولا متصدقين؛ لأنه أراد منا أن نأتيه “طوعاً” واختياراً.
قيمة “الحجاب” تكمن في أنه “فعل إرادي” تعبدي، يعبر عن خضوع المرأة لربها. لو خُلقت المرأة محجبة بالجبلة (كالفرو للحيوان) لسقطت القيمة الأخلاقية والروحية للحجاب، ولصار مجرد “جلد” أو “ريش”.
إن ساويرس ومن على شاكلته يريدون إلهاً “خالقاً” فقط، ويرفضون إلهاً “آمراً”، وهذا هو جوهر العلمانية التي تريد حصر الإله في معامل الفيزياء والكيمياء، وإخراجه من واقع التشريع والحياة.
المرحلة الثالثة: الضرب الشرعي – الحجاب حق سيادي للخالق وإلزام للخصم بكتبه
الحجاب في الإسلام ليس “رأياً فقهياً” بل هو نص قطعي الثبوت والدلالة، نزل به الوحي من فوق سبع سماوات. قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، وقال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
ولكن، بما أن السائل نصراني، فلنلزمه بما في كتبه (من فمك أُدينك):
إن سخرية ساويرس من الحجاب هي في الحقيقة سخرية من “شريعته” هو قبل أن تكون سخرية من الإسلام. ففي الكتاب المقدس (العهد الجديد)، في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (11: 5-13):
“وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى، فتشين رأسها… لأن المرأة إن كانت لا تتغطى، فليقص شعرها. وإن كان قبيحا بالمرأة أن تقص أو تحلق، فلتتغط”.
بل ويذهب النص إلى أبعد من ذلك بوصفه “طبيعة”: “احكموا في أنفسكم: هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهي غير مغطاة؟”.
فيا ساويرس، هل أنت “أفهم” من بولس الرسول؟ هل إلهك الذي تؤمن به (حسب عقيدتك) أخطأ حين أمر النساء في كنيسته بتغطية الرأس؟
إنك حين تسخر من الحجاب الإسلامي، إنما تصف دينك وتاريخك المقدس “بالتخلف” و”العبث”.
إن صور “السيدة مريم” العذراء التي تملأ الكنائس والبيوت لا توجد فيها صورة واحدة “متبرجة” أو كاشفة لشعرها؛ بل هي في قمة الحجاب والستر. فهل مريم العذراء (عندك) كانت تخالف “مشيئة الله” لأنها لم تظهر كما خُلقت؟
المرحلة الرابعة: الإلزام العقلي – الحجاب ضرورة اجتماعية وحماية للهوية
الحجاب في المنظور العقلي الرصين ليس مجرد “قطعة قماش”، بل هو “نظام تواصل اجتماعي” يعلن فيه المجتمع المسلم عن قيمه.
صيانة الأنثى من “التسليع”: في المنظور الرأسمالي (الذي يمثله ساويرس)، المرأة “قيمة استهلاكية”؛ يُباع بجسدها كل شيء من السيارات إلى أدوات التجميل. الحجاب يكسر هذه الدورة، ويجبر العالم على التعامل مع “عقل” المرأة و”شخصيتها” لا مع “تضاريس جسدها”.
تحقيق العفة العامة: الإنسان كائن يملك غريزة، والوحي الذي خلق هذه الغريزة وضع لها “كتالوج” حماية. الحجاب هو جزء من “إدارة الفضاء العام” لمنع تحوله إلى مسرح للمطاردات الغريزية التي تهدم استقرار الأسر.
التميز الشعوري: الحجاب هو “هوية” بصرية، تماماً كما تفتخر كل مؤسسة بـ “يونيفورم” خاص يعبر عن انتمائها، فإن المرأة المسلمة تفتخر بانتمائها لمملكة العفة الإلهية.
“الحجاب الرأسمالي” ونفاق الليبرالية
هنا ننتقل من الدفاع إلى الهجوم، لنكشف تناقض ساويرس والمنظومة التي يمثلها.
يا ساويرس، أنت رجل أعمال، فهل تسمح لموظفيك أو موظفاتك في مكاتب شركتك أن يظهروا “كما خلقهم الله”؟
لو جاءت سكرتيرة إلى مكتبك بملابس البحر (البيكيني) بحجة أن الله خلقها هكذا، هل ستقبلها؟
لو جاء الموظف وهو يرتدي ملابس داخلية فقط ويظهر صدره وجسمه بشكل كامل هل سوف تقبل بذلك؟
بالطبع لا! ستطردهم فوراً وتلزمهم بـ “دريس كود” (Dress Code) محدد، يفرض عليهم نوعاً من القماش، وطولاً معيناً، وهيبة رسمية.
المفارقة المضحكة: أنت تبيح لنفسك (كإنسان بشر) أن تضع “حجاباً وظيفياً” تفرضه على النساء أو الرجال في شركتك، ولا ترى في ذلك “اعتراضاً على خلقة الله”، ولكن حين يضع “خالق الكون” حجاباً شرعياً لحماية المجتمع، تصبح فجأة “حامياً للطبيعة” وساخراً من الأوامر!
أليس من “النفاق” أن تقدس قوانين “بروتوكول العمل” وتستهزئ بقوانين “رب العالمين”؟
إنك في الحقيقة لا تعترض على “القماش”، بل تعترض على “مصدر الأمر”. أنت تريد أن تكون “الآمر الناهي” في مملكتك الصغيرة، وترفض أن يكون الله “الآمر الناهي” في كونه الكبير.
كشف “الجذر النفسي” للسخرية:
إن سخرية ساويرس من الحجاب ليست ناتجة عن “بحث علمي”، بل هي ناتجة عن “استعلاء طبقي” و**”انهزامية أمام النموذج الغربي”**. هو يرى أن “التقدم” محصور في العري الغربي، وأن كل ما يمت بصلة لهوية الأمة الإسلامية هو “تخلف”. إنه يمارس “الاستعباد الفكري” للرجل الأبيض، ويحاول فرضه على مجتمع مسلم يعتز بدينه.
المرحلة السادسة: سد الاعتراضات المتوقعة
قد يقول قائل: “لكن الحرية الشخصية مكفولة، ومن حق الإنسان أن يلبس ما يشاء”.
الرد: مغالطة الانتقائية: لماذا “الحرية الشخصية” تتوقف عند حدود الحجاب؟ لماذا حين تلتزم المرأة بالحجاب تُتهم بأنها “مغيبة” أو “مكرهة”، وحين تتعرى تُوصف بأنها “حرة”؟
مفهوم الحرية في الإسلام: الحرية ليست “اتباع الهوى”، بل هي “التحرر من عبودية المادة” والخضوع لله وحده. المرأة المحجبة هي أكثر حرية؛ لأنها ترفض أن تكون “موديل” في سوق الاستهلاك الذي يقوده أمثال ساويرس.
الحجاب هوية أمة: كما لا يُسمح للجندي بخلع بزته العسكرية بحجة “الحرية الشخصية” لأنها تمثل هيبة الدولة، فإن الحجاب يمثل “هيبة الأمة الإسلامية” في الفضاء العام، والاعتداء عليه هو اعتداء على ضمير الأمة.
الخلاصة النهائية القاطعة
إن منطق نجيب ساويرس في السخرية من الحجاب هو منطق “سوقي” متهافت، يجهل أبسط قواعد الفكر والمنطق، ويناقض دينه الذي يدعي الانتساب إليه، ويصادم الفطرة والحضارة التي تدعي تغطية الجسد لا تعريته. الحجاب أمر إلهي، نزل به الوحي، وأجمع عليه الأنبياء، وسخرية الأثرياء منه لا تضره شيئاً، كما لا يضر الغبارُ وجهَ الشمس.
الحجاب جلالٌ، والسترُ جمالٌ، والتكليفُ كمالٌ. أما المنطق الذي يطالبنا بالبقاء “كما خُلقتنا الطبيعة” بلا أمر ولا نهي، فهو منطق يسقط عنه اسم “العقل” ويقترب من رتبة “البهيمية”.
رسالة للنساء: أنتن تحملن “تاج العفة” في زمنٍ يُراد فيه تحويلكن إلى “أرقام استهلاكية” في صفقات العلمانية العابرة للحدود.

