قرأت منذ قليل سؤالا في صفحة يقول صاحبه: تقولون إن الإخلاق مصدرها الوحيد الدين وهذا الكلام خاطئ لأنني أعرف أشخاص ملحدين وعندهم أخلاق أكثر من المسلمين والمؤمنين فالحقيقة الأخلاق ليس لها علاقة بالدين!
الجواب: هذا السؤال يكشف عن خلط منهجي شائع يقع فيه الكثيرون، وهو الخلط بين “السلوك الأخلاقي” كفعل ممارس، وبين “تأسيس الأخلاق” كمرجعية ملزمة. إن دعوى استغناء الأخلاق عن الدين هي دعوى تهافتت أمام البحث العقلي الرصين.
وجود ملحد يتصرف بأخلاق لا يعني أن “الإلحاد” يملك تفسيراً منطقياً للأخلاق، بل يعني أن هذا الملحد يمارس “سرقة فكرية” من مخزون الفطرة والدين ليجمّل قبح ماديته، فهو يعيش “بقايا إيمان” في سلوكه بينما ينكره بلسانه، بينما يظل الإلحاد كمنظومة عاجزاً عن تعريف “الخير والشر” تعريفاً موضوعياً ملزماً.
المرحلة الأولى: (تدمير المنطلق الفكري)
إن أول ما يسقط في هذه الشبهة هو عدم التفرقة بين “الواقع” و”الواجب”؛ فالملحد قد “يكون” صادقاً (واقع)، لكن السؤال الذي يعجز الإلحاد عن إجابته هو: “لماذا يجب” عليه أن يكون صادقاً؟11.
تحويل الإنسان إلى مادة: في المنظور الإلحادي المادي، الإنسان هو “تفاعل كيميائي” ناتج عن صدفة عمياء، والذرات لا توصف بأنها “خيرة” أو “شريرة”؛ فإذا قتل إنسان آخر في عالم مادي صِرف، فالمسألة لا تعدو كونها “إعادة ترتيب للذرات”، ولا فرق من الناحية المادية المحضة بين سقوط حجر وسقوط سكين على جسد طفل؛ فكلاهما خضوع لقوانين الفيزياء.
مغالطة “التطور الأخلاقي”: يزعم الملاحدة أن الأخلاق نتاج تطوري للبقاء؛ وهذا القول ينسف الأخلاق من أساسها، لأنه يجعل الصدق مجرد “استراتيجية بقاء” وليس “قيمة مطلقة”. فإذا كان الكذب في لحظة ما يخدم البقاء أكثر، فبناءً على هذا المنطق يصبح الكذب هو “الفضيلة”، مما يجعل الأخلاق “سيولة” تابعة للمنفعة لا حقيقة ثابتة.
السرقة من الفطرة: الملحد الذي يمارس الأخلاق يشبه شخصاً يسرق ثماراً من حديقة جاره ليضعها في سلة بيته ويدعي أنها نمت هناك؛ هو يمارس الأخلاق لأن الله غرس في قلبه “الفطرة”، فهو يستجيب لنداء الخالق في داخله وهو يكفر به بعقله.
المرحلة الثانية: الضرب الشرعي
الإسلام يقرر أن الأخلاق ثابتة بوضع الله لها، وأنها من مقتضيات الفطرة التي فطر الناس عليها، ومن غير هذا الأصل تضيع المعايير.
أصل الفطرة: يقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. فالملحد يجد في نفسه كراهية للظلم وحباً للعدل ليس بسبب إلحاده، بل بسبب هذه الفطرة التي لا يستطيع الانفكاك عنها مهما كابر4.
أعمال الكفار كسراب: يقرر القرآن أن العمل الصالح بلا إيمان يفتقد للأساس القوي والجزاء الأخروي؛ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].
فالسلوك الأخلاقي للملحد هو جمال في الظاهر، لكنه بغير مرجعية إلهية هو بناء بلا أساس ينهار عند أول اختبار حقيقي للمنفعة.
تزكية النفس بالتقوى: الأخلاق في الإسلام ليست “عادات” بل هي “عبادات”؛ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]. الدين هو الذي يوفر الدافع (الرقابة الإلهية) والغاية (الرضوان والجنة)، بينما الإلحاد يترك الأخلاق بلا “حارس” وبلا “ثواب” حقيقي.
المرحلة الثالثة: الإلزام العقلي
لنبنِ هذه الحجة المتسلسلة التي لا مفر منها عقلاً:
المقدمة الأولى: لكي تكون الأخلاق “موضوعية” (أي حقيقية تلزم الجميع وليست مجرد ذوق شخصي)، لا بد لها من “مرجع مطلق” يتجاوز أهواء البشر وتغيرات الزمان.
المقدمة الثانية: الإلحاد المادي ينفي وجود أي “مطلق” أو “غيب” أو “خالق”، ويحصر الوجود في المادة والصدفة.
المقدمة الثالثة: المادة في ذاتها “محايدة أخلاقياً”؛ فالبركان لا يوصف بالشر لأنه دمر قرية، والخلية لا توصف بالخير لأنها انقسمت لتنمو.
النتيجة اللازمة: الإلحاد عاجز منطقياً عن تأسيس “أخلاق موضوعية ملزمة”. فكل “أخلاق” يدعيها الملحد هي في نظره مجرد “تفضيل شخصي” أو “مواضعة اجتماعية”، وبذلك لا يملك الحق في لوم السارق أو الظالم، لأن الظالم ببساطة “يتبع تفضيله الشخصي” أيضاً في الإجرام.
سد الاعتراضات
الاعتراض: “لكنني أشاهد ملحداً لا يسرق ولا يقتل!”
الرد: نحن لا نناقش “هل يفعل؟” بل نناقش “لماذا يفعل؟”
الملحد لا يسرق إما خوفاً من القانون (المنفعة)، أو استجابة لـ “الفطرة” التي ينكر مصدرها (التناقض)، أو رغبة في الثناء الاجتماعي. وبمجرد غياب القانون، وضمان عدم انكشاف أمره، وعدم حاجته لثناء الناس، فإنه بناءً على منطق الإلحاد لا يوجد “سبب عقلاني واحد” يمنعه من السرقة إذا كانت ستحقق له اللذة أو البقاء.
ودعنا ننظر إلى الثمرة النهائية للأخلاق في ظل “عالم بلا إله”:
سيولة القيم: في الغرب الملحد اليوم، أصبحت “الأخلاق” تتبدل كل عشر سنوات؛ فما كان “رذيلة” في السبعينات صار “حقاً إنسانياً” اليوم (مثل الشذوذ). هذا التقلب يثبت أن الأخلاق بلا دين هي “هوى جماعي” لا حقيقة لها.
إبادة الشعوب: أعظم الجرائم في التاريخ البشري (المجازر الاستعمارية، القنبلة الذرية، الحروب العالمية) قامت بها قوى تنحت عن الدين واتبعت “العقل المادي” والمنفعة القومية. الإلحاد الذي يدعي الأخلاق هو نفسه الذي يحول الإنسان إلى “سلعة” في سوق العمل أو “رقم” في قائمة الضحايا.
انهيار المعنى: إذا كان الموت هو النهاية، والكون سيتبدد في الفناء، فما الفرق الأخلاقي الحقيقي بين “المحسن” و”المجرم” بعد مائة عام من الآن؟ كلاهما سيصير تراباً. الإلحاد يجعل الفضيلة “حمقاً” في عالم لا يحاسب أحداً.
الخلاصة
الملحد الأخلاقي هو إنسان يعيش في “نور الإسلام” وهو مغمض العينين؛ فهو يتنعم بثمار الفطرة التي غرسها الله فيه، بينما يكفر بمن غرس فيه هذه الفطرة. الأخلاق بغير إله هي “موضة” متغيرة، أما مع الإيمان فهي “ميثاق” رباني خالد.
النتيجة النهائية: الإلحاد موقف عاجز أخلاقياً، والملحد لا يكون أخلاقياً إلا إذا “خان” أصول إلحاده واستجاب لفطرته الإيمانية.

