حين ظنّ الخوارج أنهم أعرف بالإسلام وأحرص عليه من صحابة رسول الله، قاتلوهم وقتلوا منهم.. فكانوا نموذجا مبكرا وفاضحا وكاشفا للحدّ الذي يمكن أن يبلغه غبي العقل ضيق النفس إذا تصدّى لأمر الدين بنفسه! لا هو تبع أهل العلم والفهم، ولا هو ترك الأمر ولم يحشر نفسه فيه، ولا هو تورّع عن الجرائم الكبرى.. فماذا كانت النتيجة؟!
كانوا سلما على الكافرين وحربا على الصحابة الأولين.. كما وصفهم نبينا: يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان!
وقد كان من نعمة الله على هذه الأمة أن كان التصدي لهم، وأستاذ الأمة في قضيتهم: الصحابي الكبير الذي جمع بين العلم والحرب، علي بن أبي طالب رضي الله عنه.. فبه عرفت الأمة كيف يكون التعامل مع الغلو والغلاة.
أتذكر هذا الأمر مع كل مشهد تأتينا به الفتنتان الكبيرتان اللتان تأكلان في الشباب الجاهلين هذه الأيام.. فتنة النواصب الجدد، وفتنة الحدادية الجدد!
وما في هاتين الطائفتين أحدٌ يعرف بالعلم، ولا قد برز فيه، بل زعماء الفتنة جهلاء، ضربوا المثل في الغباء وفي ضيق النفس معه!
وأظهر ما يبين جهلهم أنهم ينحرفون في مسائل لطالما مرَّت عليها عقول أهل العلم، فجاء هؤلاء المبتدعة فيها بما لم يأت به الأولون! كأن الأمة كلها انحرفت عن الحق جهلا، أو جُبْنًا!! ثم جاء هؤلاء فعرفوه من بعد جهالة! أو صرحوا به من بعد خيانة!
لقد ظن هؤلاء النواصب الجدد أنهم كانوا أفهم للقرآن والسنة وأعلم بالتاريخ من سائر علماء المسلمين في سائر عصورهم، أو أنهم أشجع منهم جميعا في النطق بالحق وبيانه وإظهاره.. فلا يتورع الواحد منهم على أن يُضَعِّف الأحاديث المتواترة والصحيحة، وأن يُسَفِّه سائر علماء المسلمين عبر الأعصار والأقطار، ليجعل معاوية -رضي الله عنه- مُحِقًّا، ويجعل عليا -رضي الله عنه- هو المخطئ!
ثم تكرّ السلسلة العفنة النتنة، ويتلقفها الشباب الجاهل الغبي، الذي لم يتربَّ على يد أهل العلم والخلق والتزكية، فيطردون الكلام ويلتزمون لوازمه حتى يسبون -صراحة وبالفحش- عليا وفاطمة والحسن والحسين.. حتى لقد رأيت بعيني هاتين رسَّامًا جعل مهمته سبَّ علي، حتى وصفه بأنه أسوأ من هتلر!!
فليهنأ النواصب الجدد وشيوخهم بالخطايا والآثام التي سيجدونها في ميزانهم!
على أنه يجب أن أقول تفسيرا لهذه الظاهرة، أنها ظاهرة تعصب وغلو مقابل، في مقابل الغلو الشيعي وإجرامه، لا سيما في العراق والشام واليمن، فلذا وجد الضالون بيئة مستعدة ومتقبلة لكل ما يضادّ قول الشيعة ومذهبهم، ثم أوغلوا في المقابلة والمناقضة والتعصب حتى جاوزوا غلو الشيعة إلى تضليل الأمة كلها.
ومثل أولئك: هؤلاء الحدادية الجدد..
ولقد فزعت حين رأيت جملة من شبابهم، يسارعون بالإبلاغ لمنصات اليوتيوب وغيرها عن القنوات التي ترد عليهم.. يشنون الحملات على هذه القنوات لإغلاقها بأخبث طريقة يمكن تصورها.. يبلغون عنها بالمقاطع التي ينشرونها في دعم غزة وفلسطين..
مثال نموذجي صارخ لوصف النبي لهم بترك أهل الأوثان ومقاتلة أهل الإيمان.
فليهنأ أعداء الإسلام بهؤلاء الذين تطوعوا من أنفسهم للصد عن سبيل الله، والصد عن نصرة المسلمين، والعمل متطوعين في نصرة الكافرين والصهاينة والصليبيين.
وتأمل كيف أن القوم الذين يزعمون الحفاظ على جناب التوحيد، قد حملهم هذا الغلو في “التوحيد” إلى أن يكونوا في خدمة الكافرين، على إخوانهم المسلمين المخالفين لهم.. بل حتى لو كان هؤلاء المخالفين كفارا -في رأيهم- فإن كافرا ينصر المسلمين وينشر قضيتهم أولى من كافر يحارب المسلمين ويسعى في طمس قضيتهم وفي نصرة الأعداء عليهم.
ولكن.. هذا هو مصير من لم يأخذ العلم عن أهله، ثم لم يأخذه في إهاب التقوى والتزكية والتربية.. هذا هو مصير الذي لم يتعلم ولم يتربّ حين يدخل معركة، فهو يظن شأن الدين كشأن معارك الشوارع، حيث لا أخلاق ولا أدب ولا إنصاف!
لا هو يعرف مراتب المسائل وما يقدم منها وما يؤخر، ولا هو يعرف حجم الجريمة التي يقترفها.. ويظن نفسه ينصر التوحيد!! وما ينصر إلا نفسه وهواه ورأيه الفاسد!
وهم في هذا امتداد للمداخلة.. هؤلاء القوم الذين ارتدوا اللحى وتلفعوا بالسنة وأطالوا الكلام في الجرح والتعديل، وفي التبديع والتضليل.. ثم هم عمليا ليسوا إلا أنصار الحكام الذين هم عملاء الصهاينة والصليبيين.. فهم في النهاية خدم للكفار على المسلمين.
ولعلنا لم ننس المقال الشهير الذي نشرته تايمز أوف إسرائيل: هل المداخلة أصدقاء لإسرائيل؟
لم يحمل المداخلة السلاح ولم يقاتلوا إلا في ليبيا، مع حفتر، عميل الأمريكان!! هذا هو “جهادهم” الوحيد!! جهاد في خدمة الصليبيين على المسلمين!!
إلى كل من يريد الهداية: طريق العلم الذي ينجي في الآخرة معروف، عند أهل العلم، يؤخذ منهم على طريقة معروفة مشهورة عريقة، تمزجه بالدين والأدب والخلق والتقوى..
وأما من لم يرد هذا ولم يصبر عليه، فاهنأ بمصيرك.. وتذكر أن إبليس أعلم أهل الأرض جميعا، وهو زعيم أهل النار.. ما كانت ضلالته إلا من الكبر الذي هيمن على نفسه حتى حمله على معصية أمر الله!!
محمد إلهامي