مستر بين، هو مسلسل بريطاني تم عرضه في العقد الأول من التسعينات، وحقق نجاحا واسعا فتم تحويله لسلسلة رسوم متحركة، وكما ذكرت من قبل في سلسلة سينما العسكر أن هدفى من تناول المواد التي تعرضنا لها في جاهليتنا اللإعلامية ليس تكرار ما قتل بحثا من التحذير من ترويج المفاهيم العلمانية أو الفواحش، وإنما تحليل الأثر الفيروسي النفسي لتلك المواد الذي يصطدم مع هويتنا وعقيدتنا، ويؤثر على طريقة تفكيرنا وتلقينا للمعلومات وتعاملنا مع المواقف بعيدا عن التأصيل الشرعي الموافق للفطرة، وبالطبع لا أكتب لأحض القارئ على مشاهدة تلك المواد، وأبرأ إلى الله ممن يفهم ذلك.
وعلى غرار سينما وتلفزيون العسكر، تأتي سينما وتلفزيون الرجل الأبيض والذين لا يختلفان كثيرا عن سينما وتليفزيون العسكر، بل هم الأصل، ولكن بجودة أعلى واحترافية أكثر في طمس البصائر والعقول، فبينما يعمل إعلام العسكر على زرع فيروسات استمراء العبودية، تجد إعلام الرجل الأبيض يعمل على تسويق العبودية المقنَعة في ثوب الترف الاستهلاكي وخرافات الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وقد تناولت بعضا من ذلك في مقالات مثل: عملية الببغاء، والقنبلة الدماغية، وتطويع الإدراك، والخواجة لا يكذب، و اللورد هاو هاو، وهل توجد انتخابات في أمريكا، وخدعة التصويت، وغير ذلك من مقالات متاحة على موقعي لمن يريد التوسع. ووضحت أن من أخطر الآثار النفسية لتلك المواد الإعلامية:
1- العته التراكمي الممتد: الذي يجعلك تهضم تلك التصرفات غير المبررة شرعا وفطرة ثم عقلا ومنطقا ولكنها تؤدي إلى نهايات سعيدة في ظل معالجة درامية مهترئة، مما يجعلك تستمرئ التعاطي بنفس الطريقة مع واقعك وتفهمه وتحلله في ضوء أشباهه في الأفلام والمسلسلات والإعلانات، منتظرا نفس النهايات السعيدة، كما وضحت مؤخراً في مقالي ( استراتيجية الحلقة الأخيرة)
2- الفصام الأخلاقي: الذي يجعلك تحت ضغط المشاعر الناتجة عن التراجيديا أو الأكشن أو الخيال العلمي أو حتى الكوميديا تتقبل من “أبطال” المادة المعروضة المنكر وتبرره وتنكر ما ضايقهم من المعروف وتحاججه، بل وتقوم بشكل تلقائي في اللاوعي بمعالجة معتقداتك وفطرتك لتقبل هذه الأمور ديانة والتعامل بتلك المعتقدات في المواقف المماثلة، كما ذكرت في مقال حلقاتك برجلاتك عن فيلم الحفيد ومقال دي ماسر اللي بتلعب عن فيلم الإرهابي.
عودة لمستر بين، وهو شخصية أقرب ما تكون لطفل عنيد ومستفز في هيئة رجل بالغ، يعيش عالمه الخاص متخيلا دميته (الدبدوب) ككائن حي، ويمارس تصرفاته وطقوسه الشاذة بكاريزما الواثق العالم ببواطن الأمور متجاهلا ردود أفعال المجتمع من حوله، فهو يسعى لتحقيق أهدافه المبنية على أفكاره التي يؤمن بها ويعظمها مهما كانت بلهاء أو مضرة له ولمن حوله، ويبني على تعظيم أفكاره وأهدافه البلهاء هذه قدرته على تحمل المشاق في سبيل تحقيقها، ثم يبني على الأفكار والأهداف أفكارا وأهدافاً أخرى تتراكم إلى أن يتحول الأمر إلى ظلمات بعضها فوق بعض، والدافع وراء كل هذا هو رغبته في عيش كل تجارب الحياة كنسيج وحده لا علاقة له بتراكم الخبرة البشرية في تلك التجارب، فهو حين يذهب للملاهي أو الحدائق العامة أو الامتحان أو حتى العزاء لابد أن يمارسه بطريقته الخاصة، معتقدا أنه يفهم في كل أنشطة الحياة أكثر من كل من مارسوها قبله، حتى وإن كانت طب الأسنان أو غرفة الإنعاش، فهو لا بد أن يبدأ من الصفر و يعيد اختراع العجلة متجاهلا تجارب كل من سبقوه ومضيفا لمسة مبالغة تجويدية لم تسبق إليها.
ليست هذا هو الاشكال، فما أكثر البلهاء في كل زمان ومكان، ولكن العته التراكمي الممتد يجعلك تهضم خروج مستر (بين) بسلام أو دون أذىً يذكر من كل تلك المصائب التي أوقعته فيها أفكاره وأهدافه البلهاء، والفصام الأخلاقي يجعلك تتعاطف معه حين يأتي بتصرفات غير أخلاقية تتعدى على حقوق الآخرين كإتلاف سياراتهم أو التحايل لأخذ فرصهم وأدوارهم في الطوابير. ثم تأتي الكارثة الكبرى حين نأتي للانعكاس الواقعي! فتستمتع حضرتك بالاستماع لمتحدث عذب الحديث يتخبط يمينا ويساراً في شتى مجالات الدين والدنيا، غاضا طرفك عن شطحاته ومبالغاته ومعدل إنتاجه الضخم الذي يستحيل معه التحرير والتدقيق في كل ما يقدمه. ظللنا نغض الطرف عن مبالغاته معتذرين له بما كان يقدمه من مواد نافعة في منابذة الطواغيت وفضح تاريخهم، حتى تحولت لشطحات وصدق أن دمية الدبدوب كائن حي له مشاعر، وتحول لمستر بين حقيقي له أفكار بلهاء يبني عليها أهداف أشد بلاهة، لا سند لها من قرآن أو سنة.
فكل طرحه قائم على أن تقييم الدول والأشخاص في الإسلام مبنى على حجم الفتوحات العسكرية وإخضاع أكبر كم من العباد والبلاد لسلطان الإسلام، بغض النظر عن موافقة هذه السلطة المنتسبة للإسلام للهدي النبوي الشريف، وهو طرح طفولي عاطفي نتاج عصور الهزيمة والاستضعاف، لا يخرج إلا من عقل مستر (بين) الطفولي وإن جاوز صاحبه الأربعين، فهو بعقلية طفل عنيد ومستفز حين يناقشه من هم أعلم منه فيتعالم عليهم، وإن عارض طرحه أصول الإسلام فعليه تعديل الإسلام وصنع نسخته الخاصة وإلزام من يخالفه بأصول من اختراعه ما أنزل الله بها من سلطان، وعليه فالدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية تجارب شبه مقدسة، ويزيد والحجاج أفضل من عمر بن عبد العزيز، وعليه فيجب الطعن في كل رواية في كتب السنة تفيد ذلك الترتيب النبوي عن خلافة ثم ملك عضوض، ثم جبابرة ثم طواغيت، وتضعيف كل ما يفيد الإنكار على بني أمية مواقفهم من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وتضعيف كل ما يفيد فضائل أهل البيت، ثم إنكار مصطلح أهل البيت ووسمه بالبدعية، ثم التلميح بأن فئة علي بن أبي طالب هي الفئة الباغية وإعادة إحياء مذهب الناصبة الذين ناصبوا أهل البيت العداء و سبوا ولعنوا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه على المنابر (هذا لازم قوله وإن لم يصرح به)، وتصحيح عقائد الأشاعرة والماتريدية في الصفات لتعارضه مع تقديسه للدولة العثمانية، وإنكاره حديث فتح القسطنطينية في آخر الزمان منعاً للإيحاء بأن القسطنطينية في عهد سيده الخليفة ليفة ليست تحت سلطان الإسلام.
ثم تتراكم الظلمات فيحتاج كل هذا الجهد للعب بتفسير القرآن وتضعيف الكثير والكثير من محتوى كتب السنة النبوية، بدأها بمستدرك الحاكم إلى أن وصل لتضعيف بعض أحاديث الصحيحين! مما تطلب الطعن في بعض الرواة العدول، حتى وإن كان منهم أحد أشهر من أُخذت عنه القراءات المتواترة كالتابعي الجليل زر بن حبيش رحمه الله! وهو طعن مبطن في القرآن حتى وإن لم يدرك صاحبه، وهكذا من شؤم البدعة والضلالة أن تجر واحدة لأشد منها، حتى قال يوما أنه “لو قُتل معاوية في حربه مع على رضي الله عنهما ثم قتل علي – وهو ماحدث بالفعل – كان زمان القرآن “ا ت ش ر م ط”، ( عفواً على هذه الكلمة) وقال يوما أن “من كفرني فقد كفَّر الله”!! و إنا لله وإنا إليه راجعون ولاحول ولاقوة إلا بالله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، نعوذ بالله من الخذلان ومن الحور بعد الكور، اللهم متعنا بعقولنا وبصائرنا.
لو أن مستر بيين شخصية حقيقية لديها أدنى معرفة بالإسلام واللغة العربية – حتى وإن لم يكن مسلما – لمات تعجبا من أقوال صابر مشهور، فصابر أتى بشبهات لم يسبقه إليها أحد من المسلمين أو الكفار كما وصفه المهندس محمد إلهامي. المذهل في تطابق شخصيته مع مستر بين أنه يتعامل بنفس الثقة وكاريزما الحكمة التي يتمتع بها مستر بين حين يعامل الدمية ككائن حي أو حين يمارس طب الأسنان أو يدخل العناية المركزة أو يعزي على طريقته الخاصة، عقلية طفل عنيد وإن جاوز الأربعين! مصر على ممارسة كل شئ بلمسته التجويدية غير عابئ باستهجان من حوله لحماقته، فهو يعدِّل ويضعف أئمة الإسلام بمنتهى الأريحية بينما لا يحسن قراءة أسمائهم، فضلا عن أسماء كتبهم، هذا غير الفواحش اللغوية حين يقرأ الأحاديث، أو الأذى الموجع حين يتهجى آيات القرآن الكريم، ووالله إن صابر ليحتاج لجهد حتى يصل لمستوى قراءة ابني الصغير الذي نشأ في بيئة أعجمية ولكنه يفوقه بمراحل، فصابر هو خير مثال على حال التعليم واللغة العربية في دولة العسكر.
خلاصة طرح صابر مشهور أن تقول في نفسك أي دين هذا ذلك الإسلام الذي كان أئمته وعلمائه في ضلال مبين إلى أن جاء صابر مشهور بأطروحته التي لم يسبقه إليها أحد؟!
لا أدري إلى أي مدى ستصل زندقات صابر مشهور، فقد توسع أكثر وبدأ يتكلم في الفقه و افتتح فرعا للعقيدة والصفات! آي والله، صفات ربنا عز وجل يتكلم فيها صابر مشهور، تبارك وتعالى عن التشبيه والتجسيم والتعطيل والتأويل، ويبدو أن صابر بصدد مراجعة شاملة لدين الإسلام حتى يطرح كل شي بطريقته الخاصة في عالمه الخاص بأسلوب لم يسبق إليه، تماما كمستر (بين) حين ذهب للفندق مصطحبا معه براويزه الخاصة وستائره وشنيور لزوم الثقوب.
وكما ذكرت في بداية المقال، أن الفصام الأخلاقي الذي تروجه المواد الإعلامية يجعلك وأنت تحت ضغط المشاعر الناتجة عن التراجيديا أو الأكشن أو الخيال العلمي أو حتى الكوميديا أن تتقبل من “أبطال” عمل ما، المنكر وتبرره وتنكر ما ضايقهم وتحاججه، بل تقوم بشكل تلقائي في اللاوعي بمعالجة معتقداتك وفطرتك لتقبل هذه الأمور كدين بديل لك وتتعامل بتلك المعتقدات في مواقف مماثلة، وإذا تأملنا المواد الإعلامية لمناهضي الانقلاب على مدار 10 سنوات فستجدها تضمنت كما هائلا من التراجيديا والأكشن والكوميديا، ومن خلالها تم تصنيع الكثير من الأبطال ما جعلك تتغاضى عن كوارثهم العقدية، حتى صار منهم رموزا وأبطالا في كل المجالات، يصلحون لتكوين نخبة تمتد لمرحلة ما بعد السيسي بنكهة (ثورية وإسلامجية) متصالحة مع العلمانيين وثوابت سايكس بيكو تحت مسمى الاصطفاف أو فصل الدعوي عن السياسي كما سبق أن وضحت في مقال، التنافس بين الإسلاميين والعسكر ومقال الطرطور المحتمل.
بعض هؤلاء تنكر لمناهضة الانقلاب التي أكسبته مصداقية، و استفاد من شعبيته لترويج أباطيل لا علاقة لها بالأمر، هل يعلم أحدكم متى تحدث صابر مشهور آخر مرة عن الشأن المصري أو ما هو تعليقه على مصالحة الخليفة ليفة مع الجزار بشار والشاويش السيسي؟!
المصيبة ليست في صابر أو من يصدقونه من الغاوين و يصفونه بالشهيد الحي صابر مشهور!
صابر مشهور هو مجرد مثال على حالة الـ Benchmarking البنشماركينج (المقارنة المعيارية) التى تعاطى بها النظام العالمي مع معسكر “الإسلاميين” المفعلين، مصنعا حالة من التأسي التام بمعسكر مؤيدي الطواغيت وأولتراس أوطان الضرار، بمعنى أن معسكر “الإسلاميين” المفعلين صار يشمل نسخة متأسلمة من كل مكونات معسكر الطواغيت، (الكثير من هذه النسخ “الإسلامية” لا مطعن في إخلاصها ولكن يفاد منها بفساد معتقدهم الإرجائي وتصورهم الساذج للواقع)
فعلى مدار 10 سنوات تمت صناعة إعلاميين وثوار ومفكرين ورموز يوازون أمثالهم في معسكر الطواغيت، إذا كان لدى الطواغيت علي جمعة فلدينا من نسميه أعظم شيخ وإمام ومجدد، إذا كان لديهم خالد الجندي فلدينا عصام تليمة الذي أعاد طبع الظلال وحرفه على مذهبه الإرجائي، وإذا كان لديهم آل أديب والديهي وموسى، فلدينا ميزو طرطشة بمقدماته النارية وننص العايق، والأوساز قطايف المثقف الثوري، بل لدينا الرياضي الذي يوازي مو صلاح ولكن بنكهة متأسلمة.
ولدينا صابر مشهور الذي صار يمثل النسخة الإسلامية من إظلام بحيري، ويفوقه خطرا بمراحل، فإظلام يهاجم الإسلام من الخارج ويحاكمه إلى المفاهيم العلمانية، أما صابر فيهاجمه من الداخل ويحاكمه إلى قيم استنبطها من فهمه العاطفي الطفولي ثم يزعم أنها إسلامية، وأنا هنا لا أتهم صابر بالعمالة! إذ لو كان عميلا لجهة مخابراتية ما، لدربوه بشكل جيد بدلا من هذا الطرح الأبله المضحك (وهذا توضيح وتحليل وليس دفاعا أو رفعا للإثم عنه). إن لصابر مشهور ماضياً إسلاميا كان يؤصل فيه للكفر بواقع سايكس بيكو ويحذر من الإرجاء، هذا الماضي لا أذكره دفاعاً عنه بل حجةً عليه، وأيضاً من باب الانصاف.
ويعلم الله أنني كنت أدعو له من قبل بأن يرده الله إلى الحق ردا جميلا، أما الآن فأسأل الله أن يهديه أو يعجل بهلاكه وفضحه في الدنيا والآخرة، وأن يهدينا إلى سواء السبيل
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم آمين.
آيات عرابي