تُسْفَكُ الدِّمَاءُ وَتُسْتَبَاحُ الْحُرُمَاتُ مِنْ أَجْلِ مَتَاعٍ دُنْيَوِيٍّ تَافِهٍ، يَعْلَمُ اِبْنُ آدَمَ أَنَّهُ سَيُفَارِقُهُ ثُمَّ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
إِنَّهُ حِسَابٌ عَسِيرٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلَا تَنْفَعُ عِنْدَهُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا لِمَنِ اِرْتَضَى.
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ الَّذِي غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، يَخْشَى أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَفِي عُنُقِهِ مَظْلَمَةٌ لِعَبْدٍ فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ، فَيَسْتَبْرِئُ النَّاسَ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ لِيَقْتَصَّ مِنْهُ مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ أَوْ مَظْلَمَةٌ.. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
وَهَا هُوَ “أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ صُبَيْحٍ” الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْقُدْوَةُ، يَدْخُلُ عَلَى مَلِكِ الدُّنْيَا كُلِّهَا هَارُونَ الرَّشِيدِ الَّذِي كَانَ يَقُولُ لِلْغَيْمَةِ: أَمْطِرِي حَيْثُ شِئْتِ فَسَيَأْتِينِي خَرَاجُكِ.
اِبْنُ السَّمَّاكِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
الرَّشِيدُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّاكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْعَبَّاسِ.. كَيْفَ حَالُكَ وَأَهْلُكَ وَمَنْ تَرَكْتَ وَرَاءَك يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، فِيمَ غِيَابُكَ عَنْ مَجْلِسِنَا وَنَحْنُ أَهْلُكَ وَإِخْوَتُكَ؟
اِبْنُ السَّمَّاكِ: هِيَ أَشْغَالُ الدُّنْيَا وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَهْلِ وَالْعِبَادِ.
الرَّشِيدُ: إِنَّ الْحَرَّ فِي بَغْدَادَ لَشَدِيدٌ، يَا “مَسْرُورُ” نَاوِلْنِي كُوبًا مِنَ الْمَاءِ فَقَدِ اِسْتَبَدَّ بِيَ الْعَطَشُ.
مَسْرُورٌ: أَمْرُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَفَضَّلِ الْمَاءَ.
هَارُونُ الرَّشِيدُ: بِسْمِ اللَّهِ…
اِبْنُ السَّمَّاكِ: عَلَى رِسْلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ…
اِبْنُ السَّمَّاكِ: بِكَمْ تَشْتَرِي هَذِهِ الشَّرْبَةَ مِنَ الْمَاءِ إِذَا مُنِعْتَهَا فِي صَحْرَاءَ قَاحِلَةٍ.
الرَّشِيدُ: أَشْتَرِيهَا بِنِصْفِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَ آسِفٍ.
اِبْنُ السَّمَّاكِ: اِشْرَبْ هَنِيئًا مَرِيئًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
الرَّشِيدُ: يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ يَشْرَبُ حَتَّى يَرْتَوِيَ ثُمَّ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى.
اِبْنُ السَّمَّاكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِكَمْ تَشْتَرِي خُرُوجَ هَذِهِ الشَّرْبَةِ مِنَ الْمَاءِ إِنِ اِحْتَبَسَتْ بِدَاخِلِكَ فَامْتَنَعَ عَلَيْكَ الْبَوْلُ…
الرَّشِيدُ بِذُهُولٍ: يَا إِلَهِي.. أَعُوذُ بِاللَّهِ… أَشْتَرِيهَا بِمُلْكِي كُلِّهِ…
اِبْنُ السَّمَّاكِ: سُبْحَانَ اللَّهِ.. بِئْسَ مُلْكٌ لَا يُسَاوِي شَرْبَةَ مَاءٍ وَبُوَلَةً…
وَعِنْدَهَا بَكَى الرَّشِيدُ بِحُرْقَةٍ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ حَقَارَةِ وَرُخْصِ هَذَا الْمُلْكِ الَّذِي يَتَقَاتَلُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحُكَّامِ الْآنَ وَيَسْفِكُونَ دِمَاءَ شُعُوبِهِمْ مِنْ أَجْلِهِ وَيَنْسَوْنَ: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ يَا مُلُوكَ الْيَوْمَ وَحُكَّامَ الزَّمَانِ، هَلْ أَعْدَدْتُمْ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا يَرُدُّ عَنْكُمْ عِقَابَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟