يقول أحدهم: لماذا المسلم يقع في الأخطاء ويخالف الآيات التي تنهاه وتأمره ويخالف قول الرسول ويبقى مؤمنا وتحكمون على من يرفض حكما شرعيا لا يدخل عقله بالكفر والزندقة وهو نفس الوضع يخالف قول النبي أو آية قرآنية؟
الجواب: إن التسوية بين “العاصي” و”الجاحد” هي مغالطة منطقية وشرعية كبرى، تخلط بين “ضعف الإرادة” وبين “فساد المعتقد”.
فالمسلم العاصي يقرّ بحكم الله ويعترف بذنبه، فهو مؤمن بمرجعية النص لكنه غُلب من شهوته، وهذا نقص في العمل لا يخرج من الملة.
أما من يرفض الحكم الشرعي لأنه “لا يناسب عقله”، فهو منازع لله في حاكميته، ومنكر لمرجعية الوحي، ومكذّب للخبر، وهذا نقض لأصل الإيمان (التسليم). فالأول خالف الأمر (معصية)، والثاني نازع الآمر (كفر).
يجب أولاً هدم المغالطة التي بني عليها السؤال، وهي افتراض أن “مجرد المخالفة” هو المعيار الوحيد للحكم، وتجاهل “الباعث والدافع” و”الموقف القلبي” تجاه النص.
1. العاصي: يقر بالمرجعية مع ضعف في التطبيق
المسلم الذي يرتكب الكبيرة (كالزنا أو شرب الخمر) وهو يعلم أنها حرام، ويعتقد وجوب اجتنابها، ويشعر بالذنب أو التقصير؛ هذا الإنسان عقيدته سليمة. هو يقول بلسان حاله: “يا رب، أنت الحق، وحكمك الحق، وأنا المخطئ المقصر المغلوب على أمره”.
هنا أصل الإيمان (التصديق والانقياد القلبي للحكم) موجود.
والخلل وقع في فرع الإيمان (العمل والامتثال).
لذلك يبقى مؤمناً (بإقراره) فاسقاً (بفعله).
2. الرادُّ للحكم: إنكار للمرجعية وتأليه للعقل
أما من يرفض الحكم الشرعي الثابت قطعياً (مثل تحريم الربا، أو الميراث، أو الحجاب) بحجة أنه “غير منطقي” أو “لا يناسب العصر” أو “العقل يرفضه”؛ فهذا لم يعجز عن العمل، بل رفض المصدر.
هو يقول بلسان حاله: “يا رب، حكمك هذا خطأ، أو غير صالح، وعقلي هو الحاكمة عليك”.
هنا أصل الإيمان قد انهدم؛ لأن الإسلام هو “الاستسلام”، وهذا لم يستسلم لله، بل جعل عقله نداً لله وشريكاً له في التشريع.
هذا كفرٌ لأنه تكذيب للخبر (أن الله حكيم عليم) واستكبار عن الطاعة.
المثال التوضيحي في حياتنا اليومية:
تخيل مواطناً خالف إشارة المرور متعمداً بسبب عجلته، لكنه يقر بأن القانون صحيح وأنه يستحق الغرامة.
هذا سوف يُسمى لدى السلطات الحاكمة “مخالفاً” أو “مجرم مرور”.
وتخيل مواطناً آخر وقف أمام الشرطي وقال: “أنا لا أعترف بقانونكم، ولا بسلطة الدولة، وأرى أن هذه الإشارة غبية ولن ألتزم بها مبدئياً”.
هذا سوف يُسمى “متمرداً” و”خائناً للنظام العام” وستكون عقوبته مختلفة جذرياً عن الأول.
المبحث الثاني: التأصيل الشرعي
الإسلام فرق تفريقاً حاسماً بين المعصية وبين الكفر، والأدلة على ذلك قطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أولاً: الدليل القرآني على أن المعصية لا تخرج من الملة
قال الله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9].
وجه الدلالة: القتال بين المسلمين من أكبر الكبائر، ومع ذلك سماهم الله “مؤمنين” وأثبت لهم أخوة الإيمان في الآية التي تليها: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾. فلو كانت مخالفة الأمر تخرج من الملة لقال “أيها الكافرون”.
ثانياً: الدليل القرآني على أن “رفض الحكم” كفر
قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
وجه الدلالة: الله أقسم بذاته المقدسة على نفي الإيمان عمن لم يرضَ بحكم الرسول ﷺ ويسلم له تسليماً.
فالرفض القلبي وعدم التسليم هو المناط الذي ينفي الإيمان.
ثالثاً: عقيدة أهل السنة والجماعة
أجمع علماء أهل السنة (خلافاً للخوارج والمعتزلة) على أن:
“لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله”.
الاستحلال: هو أن يعتقد أن الحرام حلال، أو يرفض تحريمه.
هذا هو الكفر لأنه تكذيب للقرآن.
أما فعل الحرام مع اعتقاد حرمته فهو معصية وفسق لا كفر.
وتكفير الناس بالمعاصي هو مذهب الخوارج.
المبحث الثالث: الإلزام العقلي
لو قبلنا بمنطق السائل وسوينا بين العاصي والجاحد، لوقعنا في تناقضات عقلية تهدم الدين والمجتمع:
1. استحالة وجود مؤمن على وجه الأرض
يقول النبي ﷺ: «كل بني آدم خطاء». فلو كان كل من خالف أمر الله (وقع في الخطأ) كافراً خارجاً من الملة، لما بقي مسلم واحد على وجه الأرض، ولخلت الجنة من ساكنيها إلا الأنبياء!
وهذا مذهب “الخوارج” الذين كفّروا بالكبائر، وهو مذهب شاذ دموي منقرض عقلياً.
2. تحويل الدين إلى “نادي فلسفي”
إذا كان معيار قبول الحكم الشرعي هو “موافقته للعقل البشري النسبي”، فهذا يعني أن الإنسان يعبد عقله لا يعبد الله.
الإسلام لغةً وشرعاً يعني: الاستسلام والانقياد.
فإذا قلت: “أنا لا أقبل من أوامر الله إلا ما فهمت حكمته واقتنع به عقلي”، فأنت في الحقيقة تطيع عقلك، وتجعل الله مجرد “مستشار” تأخذ منه وترد! وهذا يناقض جوهر “الألوهية” و”العبودية”.
3. نسبية العقل وتخبط المعايير
عقل من الذي سيكون الحكَم؟ عقل الليبرالي؟ أم الاشتراكي؟ أم الملحد؟ أم عقل إنسان القرن السابع أم الواحد والعشرين؟ العقول تتغير وتتناقض، والوحي ثابت مطلق.
فمن رفض الوحي بحجة العقل، فقد رفض “الميزان الثابت” ليحتكم إلى “الفوضى المتغيرة”.
المبحث الرابع: تفكيك شبهة “عدم تناسب العقل”
قول القائل: “يرفض حكماً لأنه لا يناسب عقله” يتضمن كبراً عظيماً وجهلاً بحدود العقل.
1. العقل محدود والوحي مطلق
العقل البشري له حدود (كالسمع والبصر)، لا يدرك كل المصالح والمفاسد، ويتأثر بالبيئة والهوى والزمن.
أما الله عز وجل فهو ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. فرفض حكم الخالق بحجة عقل المخلوق هو كمن يرفض دواء الطبيب الجراح بحجة أن “طعمه مر” أو “لونه لا يعجبني”!
2. الابتلاء بالامتثال
جوهر الاختبار في الدنيا هو: هل ستخضع لله فيما خالف هواك وعقلك القاصر؟ أم ستتبع هواك؟
إبليس لم يكفر لأنه لم يعرف الله، بل كفر لأنه اعترض بعقله على الأمر الإلهي وقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾، فقدم رأيه (القياس العقلي الفاسد) على النص الصريح (الأمر بالسجود).
فكل من رد حكماً شرعياً ثابتاً بحجة العقل، فهو يسير على خطى إبليس في “قياس الرأي على النص”.
المبحث الخامس: الفارق الحاسم (الاستحلال والجحود)
لتوضيح الصورة نهائياً، نضع المعيار الفاصل الذي يزيل اللبس:
الحالة (أ): رجل يشرب الخمر.
يقول: “أعرف أنها حرام، والله يغفر لي، ادعُ لي بالهداية”.
الحكم: هذا عاصٍ، ومعه أصل الإيمان، وهو تحت المشيئة (إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له)، ولا يخلد في النار.
الحالة (ب): رجل لا يشرب الخمر.
لكنه يقول: “تحريم الخمر تخلف، وشربه حرية شخصية، والقرآن أخطأ في تحريمها، أو هذا الحكم لا يلزمني”.
الحكم: هذا كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، حتى لو لم يشرب قطرة خمر طوال حياته.
السبب: لأنه كذّب الله ورسوله، وأنكر معلوماً من الدين بالضرورة. مشكلته ليست في “الكأس” بل في “العقيدة”.
الخلاصة
إن الفرق بين المسلم العاصي وبين الرافض للحكم الشرعي هو الفرق بين المقرّ بالذنب وبين المكذب بالرب.
الأول: غلبته شهوته فخالف الأمر، وبقي معظماً للآمر، وهذا حال الضعف البشري الذي يرجى معه العفو.
الثاني: غلبه كبره فنازع الآمر في سلطته، ونصب عقله إلهاً يحاكم الوحي، وهذا حال الكفر الذي لا يجتمع مع الإيمان.
فالإيمان هو التسليم، ومن اشترط موافقة عقله ليطيع ربه، فقد عبد نفسه ولم يعبد الله.
للاستزادة والتوسع:
يُنصح بقراءة:
شرح العقيدة الطحاوية – لابن أبي العز الحنفي (لضبط مسائل الإيمان والكفر).
الإيمان – لابن تيمية (مرجع أساسي في الفرق بين العمل والتصديق).
ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث – د. سلطان العميري (لفهم جذور تقديم العقل على النقل).
شموع النهار – د. عبد الله العجيري (لمناقشة مركزية الوحي).

