إن حصر الإيمان في خانة “الوراثة الاجتماعية” أو “الجغرافيا” هو تبسيطٌ مخلٌّ ومغالطةٌ منطقية تُعرف بـ “المغالطة الجينية” (Genetic Fallacy)، تهدف إلى نزع قيمة الحق عن الفكرة بمحاكمة مصدرها لا دليلها. والحق أن الإيمان في الإسلام يمر بمرحلتين: مرحلة “الفطرة والنشأة” (وهي البذرة)، ومرحلة “البرهان واليقين” (وهي الثمرة). فالإسلام هو الدين الوحيد الذي حارب “التقليد الأعمى للآباء” وجعل “النظر والاستدلال” فريضةً عينيةً ليكون الإيمان مبنيًا على قناعة راسخة لا على عادة موروثة. وسنثبت بالأدلة العقلية والنقلية والواقعية أن الإيمان فطرةٌ أصيلة، وقناعةٌ عقليةٌ مكتسبة، وأن القول بأنه مجرد وراثة هو قولٌ متهافت ينقضه واقع المتحولين للإسلام في عقر دار الإلحاد.
المبحث الأول: تفكيك “المغالطة الجينية”
قبل الدخول في الأدلة الشرعية، يجب أن ننسف الأساس الفلسفي الذي بُني عليه هذا السؤال، وهو افتراض أن “مصدر المعتقد” يحدد “صحة المعتقد”.
1. المغالطة الجينية (Genetic Fallacy)
من أبجديات المنطق أن الحكم على صحة الفكرة لا علاقة له بمنشئها أو ناقلها أو جغرافيتها.
مثال توضيحي: لو ولدتَ في الصين وتعلمتَ جدول الضرب هناك، أو ولدتَ في أمريكا وتعلمته هناك، فإن حقيقة (2+2=4) تظل صحيحة ومطلقة، بغض النظر عن “الجغرافيا” التي تلقيت فيها المعلومة.
الإلزام: كون الشخص ولد مسلمًا لأن أبويه مسلمان لا يعني أن الإسلام خطأ، ولا يعني أن إيمانه باطل، طالما أن هذا الإيمان يمتلك “أدلة صحة” ذاتية وموضوعية. فالوراثة هنا هي “وسيلة نقل” للحق، وليست هي التي “صنعت” الحق.
2. فساد معيار “الجغرافيا تحكم الحقيقة”
القول بأن “لو ولدتَ في الهند لـكنتَ هندوسيًا” هو توصيف لـ “الاحتمال البشري” وليس حكمًا على “الحقيقة الإلهية”.
نعم، البيئة تؤثر في البدايات، لكنها لا تُلغي مسؤولية العقل في البحث والتمحيص.
لو سلمنا بهذا المنطق، لأسقطنا كل الحقائق العلمية والأخلاقية بحجة أنها “نتاج بيئة”.
الإنسان ميزته العظمى هي القدرة على “مجاوزة البيئة” ونقد الموروث، وهذا ما فعله كل الأنبياء وأتباعهم الذين خالفوا بيئاتهم الوثنية.
المبحث الثاني: الإيمان بين “الفطرة” و”الوراثة” (التأصيل الشرعي)
الإسلام لا ينظر للإنسان كـ “صفحة بيضاء” يكتب عليها المجتمع ما يشاء، بل يراه مخلوقًا مُحَمَّلًا ببرنامج تشغيل أصلي يسمى “الفطرة”.
1. الفطرة: البوصلة الداخلية
الإيمان بوجود خالق وبالقيم الأخلاقية ليس “معلومة خارجية” تُحشى في رأس الطفل، بل هو “شعور داخلي” يولد معه.
الدليل النبوي: قال النبي ﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» [متفق عليه].
دلالة الحديث: الحديث لم يقل “أو يسلمانه”! لماذا؟ لأن الإسلام هو الفطرة الأصلية (الموافق لنظام الكون)، بينما الأديان المحرفة هي التي تحتاج إلى “تدخل خارجي” (تهويد، تنصير) لتغيير مسار الفطرة. فالإسلام هو “الوضع الافتراضي” (Default Mode) للروح البشرية.
2. الدليل العلمي المعاصر (God Spot)
أثبتت دراسات علم النفس الإدراكي والأنثروبولوجيا الحديثة (مثل أبحاث Justin Barrett في جامعة أكسفورد) أن الأطفال يولدون ولديهم “استعداد فطري” للإيمان بخالق مدبر، وأن الإلحاد هو الموقف الذي يحتاج إلى “تلقين” لانتزاع هذا الإيمان الفطري.
إذًا، الإيمان “أصل” في النفس البشرية، والمجتمع إما أن ينميه (الإسلام) أو يطمسه (الشرك والإلحاد).
المبحث الثالث: حرب الإسلام على “الوراثة العمياء” (فريضة التفكر)
من أعظم مغالطات المشككين تصوير الإسلام كدين يطلب “التسليم الأعمى” لما وجدنا عليه آباءنا. والحقيقة هي العكس تمامًا؛ الإسلام هو الدين الوحيد الذي شن حربًا شعواء على “سلطة الآباء” و”تقليد المجتمع” في باب العقيدة.
1. ذم “إمعات” الآباء
القرآن الكريم مليء بالآيات التي تذم الكفار لأنهم عطلوا عقولهم واكتفوا بالوراثة:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170].
الإسلام يرفض أن يكون دينك “عادة”، ويطالبك بأن يكون “عبادة” مبنية على برهان.
2. فريضة “النظر والاستدلال”
أوجب الله على كل مكلف أن يُعمل عقله ليصل إلى اليقين. العقيدة في الإسلام لا تؤخذ بالتقليد (عند جمهور المحققين)، بل لا بد من حصول العلم واليقين.
﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101].
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [النساء: 82].
الإيمان المطلوب هو إيمان “أولي الألباب” الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض، لا إيمان “الببغاوات” الذين يرددون ما سمعوه.
3. تحويل الوراثة إلى قناعة
نعم، قد يولد الإنسان مسلمًا بالتبعية لوالديه، ولكن بمجرد بلوغه سن التكليف، يطالبه الإسلام بتحويل هذا “الإيمان الوراثي” إلى “إيمان يقيني” عبر:
تعلم العقيدة بأدلتها.
عبادة الله عن حب ومعرفة.
الصبر على الابتلاءات (التي هي اختبار لصدق القناعة).
فالمسلم بالوراثة مطالب بإعادة اكتشاف دينه واعتناقه عن قناعة، وإلا كان إيمانه هشًا تذروه رياح الشبهات.
المبحث الرابع: الواقع يكذب حتمية الجغرافيا (ظاهرة التحول)
لو كان الدين مجرد “جغرافيا” و”وراثة”، فكيف نفسر الظواهر التالية التي تكسر هذه القاعدة المزعومة؟
1. ظاهرة “المسلمون الجدد” في الغرب
كيف نفسر إسلام آلاف العلماء والمفكرين والأشخاص العاديين في أوروبا وأمريكا، الذين ولدوا في بيئات:
نصرانية متشددة.
أو إلحادية مادية.
أو علمانية معادية للدين. هؤلاء خالفوا “الوراثة”، وتحدوا “الجغرافيا”، وحطموا “سلطة المجتمع”، واختاروا الإسلام عن “قناعة عقلية وروحة” كاملة بعد بحث وتمحيص.
مثال: إسلام المستشرقين، والقساوسة، والعلماء (مثل جيفري لانغ، موريس بوكاي، يوسف إستس). هؤلاء لم يرثوا الإسلام، بل “انتزعوه” بقوة البرهان من بين أنياب بيئتهم.
2. عالمية الإسلام (كسر القومية)
الإسلام ليس دين “العرب” ليقال إنه وراثة عرقية.
أكبر دولة إسلامية هي إندونيسيا (آسيوية).
ملايين المسلمين في الصين وروسيا وأفريقيا وأوروبا.
الإسلام اخترق كل الحواجز العرقية والجغرافية لأنه يخاطب “العقل الإنساني” و”الفطرة المشتركة”، لا العادات القبلية.
المبحث الخامس: قلب الطاولة (الإلحاد هو الوراثة الاجتماعية الجديدة!)
هنا ننتقل من الدفاع إلى الهجوم. إذا كان المشكك يتهم المسلم بأنه يتبع بيئته، فدعنا نفحص “الإلحاد” المعاصر.
1. الإلحاد كـ “موضة” (Social Contagion)
كثير من الشباب الملحد اليوم لم يصل للإلحاد عبر بحث فلسفي عميق أو قناعة علمية مستقلة، بل وصل إليه عبر:
ضغط الأقران (Peer Pressure): في الجامعات ووسائل التواصل، أصبح الإلحاد “رمزًا للذكاء والتحرر”، والدين “رمزًا للرجعية”.
التقليد الأعمى للغرب: بما أن الغرب قوي ماديًا وهو علماني/ملحد، إذن يجب أن نكون ملاحدة لنتقدم! هذا هو عين “التقليد الأعمى” الذي يذمونه.
الوراثة الأكاديمية: الطالب في الغرب (أو المدارس المتغربة) يرضع “المادية الداروينية” منذ الصغر كحقيقة مطلقة، ولا يُسمح له بنقدها. أليس هذا تلقينًا ووراثةً فكرية؟
2. “ملاحدة التيك توك”
هل الملحد الذي يستقي معلوماته من مقاطع فيديو قصيرة (Reels) وشعارات سطحية، ثم يكررها كالببغاء (“الدين أفيون الشعوب”، “وهم الإله”)… هل هذا صاحب قناعة؟ أم هو “مقلد” لأفكار لم يفهم جذورها؟ الحقيقة: كثير من الملاحدة هم “مؤمنون بالصدفة” تقليدًا لدوكنز وهاريس، وليسوا “مفكرين أحرارًا” كما يدّعون.
المبحث السادس: الخلاصة والحكم النهائي
الإيمان في الإسلام عملية حية وديناميكية، تبدأ بالفطرة، قد يرعاها الأبوان (نعمة الوراثة)، لكنها لا تكتمل ولا تنجو إلا بـ “القناعة واليقين”.
البداية: الإسلام هو الفطرة، والبيئة الإسلامية تحفظها من التشويه.
المسار: الله أمر بالنظر والتفكر ليكون الإيمان اختيارًا حرًا واعيًا.
الواقع: انتشار الإسلام في كل البيئات يثبت أنه دين “برهان” لا دين “مكان”.
الإلزام: من وُلد مسلمًا فهو في نعمة، لكنه مُطالبٌ بتحويل هذه النعمة إلى “كسبٍ ذاتي” بالعلم والعمل، وإلا كان إيمانه “عادة” لا “عبادة”، والعادة لا تصمد أمام الفتن.
الحكم القاطع: الإيمان قناعةٌ عقليةٌ وقلبيةٌ، وافقت في حال المسلمين بالوراثة فطرةً سليمةً وبيئةً حافظة. أما من اكتفى بالاسم دون المعنى، وبالوراثة دون الدراسة، فهو على خطر عظيم، وليس هو النموذج الذي يرتضيه الإسلام لأتباعه.
للاستزادة والتوسع:
يُنصح بقراءة:
براهين وجود الله في النفس والعقل والكون – د. سامي عامري (لتأسيس القناعة العقلية).
رحلة عقل – د. عمرو شريف (نموذج للتحول من الشك لليقين).
قصة الإيمان – الشيخ نديم الجسر (حوار فلسفي بين الحيرة واليقين).
كامل الصورة – أحمد السيد (لتعزيز اليقين وتفكيك الشبهات).
لأنك الله – علي بن جابر الفيفي (لبناء الجانب الروحي القلبي).

