إن منشأ هذه الشبهة هو الخلط بين مفهومي “العدل” و”المساواة”، واقتصار النظر على “لقطة واحدة” من شريط الحياة الطويل (الدنيا)، مع تجاهل الصورة الكاملة التي تشمل (الآخرة). فالعدل الإلهي يقتضي وضع الشيء في موضعه بحكمة، لا توزيع الأشياء بالتساوي الميكانيكي، والتفاوت في الأرزاق والابتلاءات هو جوهر “الامتحان” الدنيوي، الذي لا تكتمل نتائجه ولا يظهر عدله المطلق إلا في دار الجزاء (الآخرة)، حيث يُعوَّض المبتلى ويُحاسب المنعَّم.
المرحلة الأولى: الهدم المنطقي (تفكيك الإشكال)
1. مغالطة “المساواة هي العدل” يعتقد المعترض أن العدل يعني أن يحصل الجميع على نفس القدر من المال والصحة والجمال. وهذا خطأ عقلي فادح؛ فلو ساوى الله بين الخلق في كل شيء لتعطلت الحياة.
مثال: لو كان الجميع أطباء، من يخبز الخبز؟ ولو كان الجميع أغنياء، من يعمل في البناء؟
النتيجة: التفاوت هو “وقود الحركة” والتكامل في الكون، وهو ضرورة لاستمرار الحياة الاجتماعية، لا نقيضاً للعدل.
2. مغالطة “الامتحان الموحد” الدنيا قاعة امتحان، والامتحان العادل لا يشترط “تطابق الأسئلة”، بل يشترط “عدالة التصحيح”.
الغني امتحانه: الشكر والعطاء وعدم الطغيان.
الفقير امتحانه: الصبر والرضا والسعي العفيف.
الخلل: المعترض يريد “إجابات موحدة” (نعيم للجميع) في دار هي أصلاً دار “اختبار”.
3. مغالطة “بتر السياق” (الدنيا ليست النهاية) الحكم على عدل الله من خلال الدنيا فقط، كالحكم على فيلم سينمائي من مشهد واحد مؤلم.
الإسلام يطرح معادلة (الدنيا + الآخرة = العدل المطلق).
حذف “الآخرة” من المعادلة يجعل الحياة عبثية، لكن الإسلام يثبت أن كل حرمان دنيوي يقابله عوض أخروي هائل ينسي الإنسان شقاءه.
المرحلة الثانية: البيان الشرعي
1. الدليل على حكمة التفاوت (التسخير والتكامل) قال الله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32]. وجه الدلالة: التفاوت مقصود لخدمة البشر بعضهم لبعض (سُخريّا)، ولتستقيم الحياة، ثم بين أن رحمته (الدين والجنة) خير من كل عرض الدنيا.
2. الدليل على خطر الغنى المطلق (الفساد) قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]. وجه الدلالة: الله يعلم “كيمياء النفوس”؛ فمن الناس من لا يصلحه إلا الغنى، ومنهم من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أُعطي الجميع ما يشتهون لطغوا وأفسدوا.
3. التعويض الأخروي المدهش عن النبي ﷺ قال: «يُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ» (رواه مسلم). وجه الدلالة: لحظة واحدة (غمسة) في نعيم العدل الإلهي تنسي الإنسان شقاء العمر كله.
المرحلة الثالثة: الإلزام العقلي (مفهوم الرزق الواسع)
1. إعادة تعريف “الرزق” المعترض يحصر الرزق في “رصيد البنك”، وهذا قصور في النظر. الرزق منظومة شاملة تتوزع كالتالي:
المال رزق.
الصحة رزق.
راحة البال رزق.
الذرية الصالحة رزق.
الستر رزق.
والأعظم: الإيمان والرضا رزق. النتيجة: إذا تأملت الواقع، تجد الله قد “وزع” هذه الأرزاق. فقد تجد غنياً محروماً من الصحة، وفقيراً صحيح البدن مرتاح البال. فالمجموع النهائي للـ “نعم” والـ “المنغصات” أقرب للتوازن مما تظن، ولكن الناس ينظرون لما في أيدي غيرهم فقط.
2. ضريبة النعمة (الحساب) كلما زاد الرزق، زاد “طول الوقوف” للحساب يوم القيامة.
الفقير حسابه يسير وخفيف.
الغني سيُسأل عن كل درهم: من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ عقلاً: هل من العدل أن يحصل شخص على مليارات ثم لا يُسأل عنها؟ العدل يقتضي أن “الغُرم بالغُنم”.
3. الابتلاء كـ “جهاز مناعة” للروح الابتلاءات ليست انتقاماً، بل هي:
تنبيه: لإيقاظ الغافل من سكرة الدنيا.
تطهير: لتكفير الذنوب حتى يلقى الله نقياً.
رفع درجات: للوصول لمنازل في الجنة لا يبلغها العبد بعمله المجرد.
المرحلة الرابعة: سد الاعتراضات
اعتراض: “لكن هناك أطفال يتألمون ويموتون جوعاً، أين العدل هنا؟” الرد:
ظلم البشر لا ظلم الله: معظم المجاعات والحروب سببها طغيان البشر، وسرقة الحكام للأقوات، واحتكار الدول الكبرى للثروات. الله خلق ما يكفي البشرية، ولكن الإنسان هو الذي ظلم.
حق الطفل محفوظ: هؤلاء الأطفال هم “عصافير الجنة”، نالوا الخلود الأبدي بلا حساب ولا عذاب مقابل ألم ساعة في الدنيا.
درس للأحياء: ألمهم ابتلاء “لنا” نحن الأصحاء الأغنياء: هل سنساعدهم؟ هل سنتحرك؟ أم سنكتفي باتهام الله؟
اعتراض: “لماذا لا يعطينا الله وبعدها يحاسبنا؟ لماذا المنع أصلاً؟” الرد: المنع في الدنيا هو عين العطاء أحياناً. كالطبيب الذي يمنع الحلوى عن مريض السكري. لو أعطاه لقتله. الله أعلم بما يصلح نفوس عباده، والمنع حماية (حمية) من طغيان قد يودي بصاحبه لجهنم.
المرحلة الخامسة: قلب الطاولة
لننتقل للهجوم الفكري: ما هو البديل عند من ينكر وجود الله أو حكمته؟
في الرؤية الإلحادية المادية:
هذا التفاوت هو نتاج “صدفة عمياء” و”انتخاب طبيعي” متوحش.
الفقير الذي مات جوعاً، والمظلوم الذي قُهر، والطفل الذي تألم.. انتهى أمرهم إلى العدم. لا تعويض، لا إنصاف، لا محكمة نهائية. لقد خسروا كل شيء للأبد.
الغني الظالم الذي سرق قوت الفقراء ومات في قصره.. نجا بفعلته للأبد.
النتيجة: الإلحاد هو قمة “اللاعدالة” والعبثية. أما الإسلام فيقول: “انتظروا، القصة لم تنتهِ، هناك يوم للفصل، وسيأخذ كل ذي حق حقه حتى يقتص للشاة الجلحاء من القرناء”. فأي المنهجين أكثر عدلاً وإنصافاً للمستضعفين؟
الخلاصة
إن تفاوت الأرزاق والابتلاءات هو قانون توزيع الأدوار في قاعة الامتحان الكبرى (الدنيا)، وهو ضرورة لاستمرار الحياة وتكامل البشر. العدل الإلهي ليس “مساواة عمياء” في العطاء، بل هو حكمة بالغة في التوزيع، وتعويض عظيم في المصير. المشكلة ليست في أفعال الله، بل في قصر نظر الإنسان الذي يريد الجنة في الأرض.
للاستزادة والتوسع: يُنصح بقراءة:
مشكلة الشر ووجود الله – د. سامي عامري (من أهم المراجع في هذا الباب).
لأنك الله – علي بن جابر الفيفي (لفهم معاني أسماء الله كالحكيم واللطيف).
حوار مع صديقي الملحد – د. مصطفى محمود.
الإلحاد للمبتدئين – د. هيثم طلعت.

