في تاريخ الأمة الإسلامية، وقعت صراعات عديدة بين العلماء، بعضها كان نتيجة اختلافات حقيقية في الفهم والتفسير للنصوص الشرعية، وبعضها الآخر كان نتيجة لظروف سياسية واقتصادية فرضتها السلطة أو القوى الخارجية لكن المتفق عليه بين هؤلاء جميعًا أن الأولولية لتحكيم شرع الله والجهاد ورفع راية الإسلام وحماية بلاد المسلمين.
من بين هذه الصراعات، الصراع حول خلق القرآن وبعض المسائل الكلامية في القرن الثالث الهجري، الذي كان بمثابة فتنة كبرى آنذاك كادت أن تعصف بدولة الإسلام. غير أن هذا الخلاف، الذي عانى منه العلماء الأجلاء مثل الإمام أحمد بن حنبل، قد أصبح اليوم بابًا واسعًا لاستدعاء الجدل العقيم الذي يعطل المسلمين عن تحقيق الغايات الأسمى التي نادى بها السلف الصالح في القرون الأولى من الإسلام.
فالفرقة الحدادية تعيد إحياء الجدل الذي وقع حول مسألة خلق القرآن التي أثارت الفتنة في العصور القديمة، مدعية بذلك اتباع السلف. ولكن هنا يتبادر إلى الذهن سؤال محوري: أي سلف يتبعون؟ هل يتبعون الصحابة والتابعين الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني؟ أم أنهم يتبعون من جاء بعد ذلك ودخل في صراعات كلامية فرضتها ظروف سياسية ضيقة؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”. وبالإجماع الصحابة والتابعين هم خير السلف، فهل نترك ما كان عليه هذا القرن الأول من جهاد ودعوة إلى التوحيد وتطبيق شرع الله في الأرض، ونذهب إلى التبديع والتفسيق والتكفير بين المسلمين حول مسائل كلامية لا وجود لها في واقعنا المعاصر بالشكل الذي كانت عليه في الماضي؟
لو كان هؤلاء حقًا يريدون اتباع السلف، فإن الطريق أمامهم واضح وجلي. دونهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والحسن، والحسين، وغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم خير القرون بلا منازع. فما كان يفعل هؤلاء العظماء للإسلام؟ كانت حياتهم دعوة وجهاد، وتحكيمًا لشرع الله، وإقامةً للصلاة، ورعايةً لشؤون المسلمين والرحمة والرفق بهم. كانوا يبنون أمةً، ويحمونها، ويجمعون شتاتها، بقلوبٍ مشبعة بالإيمان وعزيمةٍ لا تلين.
أما الحدادية، فماذا قدموا للإسلام؟ لقد صنعوا دينًا مشوهًا، دينًا يدعو إلى الخنوع والفرقة، حيث لا حديث لديهم سوى التكفير والتبديع وحتى قضايا المسلمين الكبرى يطعنون بها ويسخرون منها ومن المجاهدين. ثم تسلطوا على العلماء لإسقاطهم بأوهى الحجج. يتعقبون العثرات الصغيرة، فيصنعون منها جبالًا لتسقط على رؤوس من يعارضهم. إنهم يدمرون الجسور التي بناها العلماء بدمائهم وجهودهم، ويمزقون جسد الأمة الواحد الذي ناضل الصحابة ومن تبعهم لإبقائه متماسكًا.
فأين هم من السلف؟ أين هم من أبي بكر الذي كان يجمع الناس ولا يفرقهم ويقاتل من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام، ومن عمر صاحب الفتوحات الذي كان يذود عن الأمة بالجهاد، ومن علي الذي وقف بالحق ونشر العلم؟… إن الحدادية لا يتبعون إلا منهج الفرقة والتشتيت وهذا من أبعد ما يكون عن منهج السلف، والآن لا هدف لهم سوى إسقاط من رفع الله قدره بالعلم والدعوة بسبب خطأ وقع فيه باجتهاد، وكأن رسالتهم الوحيدة هي هدم ما بناه العلماء الأجلاء في قرون مضت.
الآن، الساحة خالية تمامًا مع ندرة في العلماء والدعاة، والأولويات تتغير مع تغير الزمان. نحن في زمن تحتاج فيه الأمة إلى دعوة رفيقة، لينة، تخاطب العقول والقلوب. نحن في زمن المواجهة الحقيقية، لا مع المسائل المتنازع عليها.
إن الأولوية الآن مواجهة الإلحاد الذي ينخر في نفوس الشباب، مع النسوية والشذوذ الذي يعبث بالهوية الفطرية، ومع الأفكار العلمانية التي تسعى لطمس معالم ديننا. نحتاج لتحرير بلادنا ومواجهة الصهيونية، ونصرة قضايا المسلمين، وكشف حقيقة الغرب الذي طالما تباهى بحضارته المزيفة، تلك الحضارة التي تصنع قشورًا من الحرية بينما تخفي وراءها استغلالًا واستعمارًا جديدًا.
إن الأمة في أمس الحاجة إلى العلماء والدعاة الذين يحصنون الجيل القادم من هذه الفتن، ويقفون كالجبال أمام التيارات الهدامة. لسنا بحاجة إلى مزيد من إسقاط العلماء، لا المعاصرين ولا السابقين، بل نحن في زمن نحتاج فيه إلى كل صوت يرتفع بالحق، إلى كل عالم يجتهد في حماية الأمة، وإلى كل داعية يضيء الطريق أمام الأجيال القادمة.
وفي هذا الوقت الحرج، وبينما نحن في أمس الحاجة إلى كل كلمة وكل عالم، نجد الفرقة الحدادية تطفو على السطح، ساعية لإسقاط العلماء والدعاة على أبسط الأمور وأقل الأخطاء. ولأمرٍ عجيب، صاروا يوالون ويعادون بناءً على شخوصهم، لا على المبادئ. فإن تحدث عنهم أحد بكلمة، قاموا بالهجوم عليه، ونبشوا ماضيه ليسقطوه. وفي كل هذا، ينسون أو يتناسون أن الأمة تحتاج إلى الوحدة، وأن إسقاط العلماء والدعاة في هذا الزمن هو هدية لأعداء الأمة ليعبثوا بعقول شبابنا وأجيالنا القادمة.
إن الغريب في أمر الحدادية أنهم يتغافلون عن حقيقة أن مسألة خلق القرآن وغيرها من المسائل الكلامية وقعت في سياق سياسي معقد، حيث كان العلماء يُسجنون ويُعذّبون بسبب رفضهم لهذه العقائد. أما اليوم، فلا وجود لهذا السياق القمعي الذي يفرض على الناس اعتناق مذهب معين أو يعاقبهم إن رفضوا. فلماذا إذًا نستدعي هذه الخلافات في زماننا ونترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دعوة إلى الجهاد في سبيل الله وإقامة حكمه في الأرض؟
من ذا الذي في زماننا هذا يقف على المنابر، ويدعو إلى القول بخلق القرآن، ثم يرفع يده ليضرب الناس ويعذبهم ويختبر إيمانهم بمثل هذه المسائل؟ أين ذلك الطاغي الذي يأخذ الناس عنوة، ويمتحن صدورهم؟
بل أين هم أولئك العلماء والدعاة الذين ملأوا الساحات بهذا القول في القرن الثالث الهجري، يملون على الناس عقائدهم ويهددون من يعارضهم بالسجن والتعذيب؟
هل نرى اليوم هؤلاء الساعين بين الناس بهذا الجدل، يمسكون بالعصا كما فعل أتباع السلطان في تلك الفتنة العاتية؟ كلا!
اختفى السياق، وغاب الطغاة، وانطفأت نار التعذيب على هذه المسائل، فلماذا نعيد فتح جروح قد اندملت؟ لماذا نغرق في هذه المسائل العقيمة ونتناسى التحديات الكبرى التي تواجه الأمة؟
الحدادية لا تكتفي بإشعال الصراعات الكلامية فحسب، بل تجعلها الأساس الذي تقيس عليه إيمان الناس وولاءهم، وتفصل الناس إلى مسلمين وكفار بناءً على هذه الاختلافات الفرعية. في حين أن القرآن والسنة واضحان في تركيزهما على التوحيد، وإقامة الصلاة، والزكاة، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.
الانشغال بهذه القضايا العقيمة بعيدًا عن تطبيق شرع الله والجهاد في سبيله هو من أبرز الأسباب التي سمحت لأعداء الأمة بالتسلط على المسلمين. لقد تحولت هذه الخلافات الكلامية إلى سلاح يستخدمه بعض الأنظمة والحكومات لإشغال المسلمين بأنفسهم، ليتركوا قضيتهم الكبرى في تحرير أوطانهم واستعادة كرامتهم. وأصبح هذا النوع من الجدل بمثابة المنطقة الآمنة التي لا يبتلى فيها المرء أو يعاقب من الحكومات. بل بالعكس، نجد بعض الحكومات تدعم هذه الخلافات وتغذيها بهدف نشر الفرقة بين المسلمين، وإسقاط العلماء والدعاة الذين يمثلون صوت الحق.
إن محاولة إسقاط العلماء والدعاة اليوم لا تأتي فقط من أعداء الدين الخارجيين، بل من داخل المنظومة الإسلامية نفسها. فبعد أن فشلت هذه الأنظمة في إضعاف الإسلام من خلال الإلحاد أو التنصير، اتجهت إلى طريقة أكثر خبثًا؛ وهي إذكاء الخلافات الداخلية بين المسلمين وإشعال الفتن التي تسقط الرموز والعلماء، وتجعلهم في صراع دائم حول مسائل فرعية بدلًا من التركيز على الأصول التي تجمع الأمة.
لقد شاهدنا كيف تستغل بعض الأنظمة الحاكمة هذا النوع من الصراعات لتشتيت الناس عن القضايا الكبرى التي تواجه الأمة، مثل تحرير المقدسات الإسلامية، والوقوف أمام مخططات الصهيونية العالمية. وما هؤلاء الحدادية إلا أداة في يد هذه الأنظمة لتدمير الوحدة الإسلامية وإضعاف الأمة من الداخل.
إلى أتباع الحدادية، أتوجه إليكم بهذا السؤال: أين أنتم من القرآن والسنة الصحيحة؟ أين أنتم من وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالجماعة والابتعاد عن التفرق؟ ألم يقل الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا”. لماذا تصرون على استدعاء خلافات قديمة وقع فيها العلماء في زمان مضى وظروف مغايرة؟ لماذا تستبدلون الجهاد ضد أعداء الأمة بالجهاد ضد إخوانكم المسلمين؟
اتقوا الله في أمتكم، واتركوا هذا الجدال الذي لا يخدم سوى أعداء الإسلام. الأمة بحاجة إلى وحدتكم وتضامنكم، وليس إلى تفرقكم. دعوا خلافات الماضي، وركزوا على الحاضر والمستقبل، فالأمة تواجه تحديات كبرى من الداخل والخارج، ولن تستطيع التغلب عليها إلا بالوحدة والاعتصام بحبل الله.
من المهم الإشارة هنا إلى أن التاريخ يعيد نفسه. ففي فترة ضعف الدولة العباسية، انشغلت الأمة بخلافات كلامية وفقهية بينما كانت تتعرض لهجمات من المغول والصليبيين. واليوم، نشهد نفس السيناريو يتكرر، حيث تنشغل بعض الجماعات بخلافات فرعية بينما تعاني الأمة من الاحتلال والظلم والقهر. علينا أن نتعلم من دروس التاريخ، وألا نكرر أخطاء الماضي.
في النهاية، علينا أن نتذكر أن الإسلام دين يركز على الوحدة، ويركز على دعوة الناس إلى الخير والحق. فلا يجب أن نضيع وقتنا وطاقتنا في صراعات لا تخدم إلا أعداء الأمة، بل علينا أن نعيد التركيز على تحقيق أهداف الإسلام الكبرى في نشر التوحيد، وإقامة العدل، والدعوة إلى الخير، والجهاد في سبيل الله.
مصطفى الشرقاوي