الإسلام هو دين الفطرة، الذي جاء ليخاطب الإنسان بعقله وقلبه، ويمكّنه من فهم حقيقة وجوده وواجبه نحو خالقه ونحو البشر بسهولة ويسر دون تعقيدات.
منذ بدايته، كانت بساطة الإسلام واحدة من أهم الأسباب التي جعلته ينتشر بسرعة هائلة بين الشعوب والأمم، في وسط عالم يعج بالعقائد المتشابكة والمعقدة، أتى الإسلام برسالة واضحة تقوم على التوحيد الخالص لله وعبادته وحده دون وسيط، ما جعل هذا الدين جاذبًا للملايين لدرجة أن الرجل يسمع آية أو يرى موقفًا فيدخل في الإسلام مباشرة دون معرفة التفاصيل.
لو أن المسلمين في البداية غرقوا في التفاصيل والجدليات العقيمة، لأصبح ذلك حاجزًا أمام انتشار الإسلام. لذا، حين أرسل النبي ﷺ معاذ بن جبل إلى اليمن، أوصاه بأن يكون أول ما يدعوهم إليه هو الشهادتين ثم الأمر بالصلاة إلخ؛ إذ كانت هذه البساطة جوهر الدعوة، وهي التي جذبت الشعوب للدين. فقد كان الإسلام دينًا يوحّد ولا يفرّق، يخاطب الفطرة السليمة ويدعو إلى العدل والمساواة والتكافل بين الناس.
لقد أتى الإسلام بالإيمان المجمل، الذي يعتمد على أركان بسيطة يسهل على الجميع فهمها وتطبيقها.
يؤمن المسلمون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. هذه الأركان الستة تمثل جوهر العقيدة الإسلامية، وتُعززها تعاليم أخلاقية واضحة تدعو إلى العدل والرحمة والإحسان.
فيما يتعلق بالعبادات في الإسلام، فقد جاء الإسلام بعبادات سهلة تركز على التيسير والقدرة. فالصلاة، الصوم، الزكاة، والحج هي أركان الإسلام التي تؤدى وفق استطاعة المسلم. على سبيل المثال، من لا يستطيع الصلاة قائمًا، يمكنه الصلاة جالسًا، ومن لا يستطيع الصوم بسبب المرض أو السفر، يجوز له الإفطار مع قضاء الصيام لاحقًا أو دفع الفدية في بعض الحالات.
أما بالنسبة للحج، وهو من أركان الإسلام الكبرى، فإن الإسلام رفع الحرج عن من لا يستطيع القيام به، حيث يُطلب من المسلم أداؤه فقط إذا كان قادرًا ماليًا وجسديًا. في القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى يقول: “وما جعل عليكم في الدين من حرج” [الحج: 78]، وهي إشارة واضحة إلى أن العبادة في الإسلام مبنية على التيسير والقدرة.
الزكاة أيضًا تؤدى بحسب القدرة المالية، فلا تفرض إلا على من يملك النصاب (حدًا معينًا من المال)، وهذا يجسد كيف أن الإسلام يحرص على التوازن بين القيام بالعبادات وحفظ مصالح الفرد.
هذه العبادات تركز على تحقيق التواصل مع الله دون تعقيد أو طقوس معقدة، وهي مرنة بما يكفي لتراعي ظروف الأفراد المختلفة، وهذا ما يجعل الإسلام دينًا يسيرًا ومحببًا للجميع، وتهدف هذه العبادات بالدرجة الأولى إلى تنقية النفس وتقوية العلاقة بين الإنسان وربه، والأحكام الفقهية مبنية على قاعدة التيسير ورفع الحرج؛ فالله تعالى يقول في القرآن الكريم: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” [البقرة: 185]. وهذا ينعكس في كافة تعاليم الإسلام، حيث يُراعى التوازن بين حقوق الفرد وواجباته، بين الدنيا والآخرة، وبين العبادات والمعاملات.
عبر تاريخ الدولة الإسلامية، نجد أن ازدهارها واستقرارها كانا في أوجِهما عندما كانت الدعوة الإسلامية قائمة على البساطة والتوحيد الخالص، بعيدًا عن الجدل والتفاصيل المعقدة. ولكن مع مرور الزمن، بدأت تظهر الفرق والجماعات التي ابتعدت عن جوهر الرسالة، وانغمست في الفروع والجدليات الفكرية. هذا الانغماس في المسائل الفرعية أدى إلى انقسامات داخلية شتتت وحدة المسلمين، وأضعفت الدولة الإسلامية في مواجهتها للأعداء وساهمت في نشر الفرقة والاختلاف بين المسلمين.
على سبيل المثال، عندما ظهرت الفرق مثل الخوارج والشيعة في عهد علي بن أبي طالب، لم تكن هذه الاختلافات مجرد آراء فكرية، بل أثرت بشكل مباشر على استقرار الأمة وأدت إلى حروب وصراعات داخلية، ونجد في العصر العباسي أن الخلافات الفكرية بين المذاهب والفرق، مثل الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة حول قضايا كخلق القرآن، لم تكن مجرد نقاشات فكرية بل أصبحت سببًا رئيسيًا في حدوث اضطرابات سياسية واجتماعية داخل الدولة. هذه الخلافات شغلت القيادات عن الاهتمام بشؤون الحكم، مما جعل الدولة أكثر عرضة للهجمات الخارجية.
التاريخ يؤكد أن الأمة الإسلامية كانت في أفضل حالاتها عندما كانت الوحدة الفكرية والدينية هي السائدة، وقبل أن تتسبب الفرق والجدالات في تمزيق الصفوف. فعندما تمسك المسلمون ببساطة دينهم، استطاعوا تحقيق الفتوحات العظيمة ونشر الإسلام بسلام، لكن مع ازدياد الجدل والتعقيد، أصبحوا أكثر عرضة للهزائم واستباحة بلادهم من قبل الأعداء
إضافة إلى ذلك، نجد أن الجدل المتزايد أدى إلى نفور غير المسلمين من اعتناق الإسلام، إذ أصبح الدين يبدو معقدًا ومليئًا بالتفاصيل الجدلية، مما يثير البلبلة ويبعدهم عن جوهر التوحيد.
هذه المحاولات تهدف إلى إدخال تعقيدات لا أصل لها في الدين يُراد منها نشر الفرقة والتضييق على المسلمين في عباداتهم وعقائدهم، وتحويل بساطة الإسلام إلى شبكة معقدة من الأحكام والآراء التي تجعلهم في حيرة مستمرة.
غير أن الإسلام، بفضل الله، ظل بسيطًا في أصله رغم كل تلك المحاولات. وما زال ملايين المسلمين حول العالم يجدون فيه طريقًا للحياة السعيدة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
الإسلام يدعو إلى التفكر والتأمل في الكون والحياة، ولكن دائمًا ضمن إطار التوحيد والإيمان. هذه الدعوة إلى التأمل ليست مطلقة بل مشروطة بما يعزز الإيمان ويقرب المسلم من الله، بعيدًا عن الدخول في الجدال العقيم والتفاصيل التي تشتت الانتباه.
القرآن يحث المؤمنين على التزام الحكمة في حديثهم ومعاملاتهم، ويشير إلى أن الجدال غير المثمر يُضعف المجتمع ويثير الفتنة. كما جاء في الحديث: “من ترك المراء وهو محق، بني له بيت في وسط الجنة” (رواه الترمذي)، مما يوضح قيمة ترك الجدال حتى لو كان الشخص على حق.
في وقت يواجه فيه المسلمون تحديات من الخارج، مثل الدعوات إلى الإلحاد والترويج لأفكار تخالف العقيدة الإسلامية، يجب أن تتركز الجهود على الأولويات الكبرى، مثل الدفاع عن العقيدة ونشر الفضيلة، بدلًا من التورط في معارك كلامية تفرق الصفوف.
عندما ينشغل المسلمون بالجدالات الثانوية، يُفتح المجال للعدو الخارجي للتسلل إلى قلب المجتمع ونشر الأفكار المنحرفة، مثل النسوية المتطرفة والتبشير بالإلحاد. لذا، يجب علينا أن نتجنب الخلافات التي لا فائدة منها، ونعمل على توحيد صفوف المسلمين في مواجهة هذه التحديات المشتركة.
الرسول ﷺ كان دائمًا يُبسط الأمور لأصحابه، ويدعوهم إلى الاعتدال والابتعاد عن الغلو في الدين، حيث قال: “إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين” (رواه ابن ماجه). هذه النصيحة النبوية تشير إلى أن الفهم الحقيقي للإسلام يكمن في بساطته واعتداله، وفي الابتعاد عن التشدد الذي يُنفر الناس من الدين بدلًا من أن يقربهم منه.
في نهاية المطاف، لم تكن بساطة الإسلام مجرد سبب لانتشاره في بداياته، بل هي الأساس الذي حفظ استمراريته وجاذبيته حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من ظهور بعض التيارات التي تسعى إلى تعقيد الدين وجعل ممارسته صعبة من خلال تفاصيل وجدل لا طائل منه، فإن هذه الأفكار الطارئة تظل هامشية مقارنة بجوهر الإسلام النقي.
الإسلام، بتعاليمه الواضحة، يظل الملاذ الآمن لأولئك الذين يبحثون عن الوضوح والبساطة، وهذا ما يجذب غير المسلمين إلى الإسلام وفي قصص المسلمين الجدد ما يؤكد ذلك.
إننا في زمن تتفاقم فيه التحديات وتتكاثر الفتن، ما أحوجنا إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله الكريم لنجتمع على كلمة سواء، كلمة التوحيد والتقوى.
إن الإسلام ببساطته جمع شمل المسلمين في صدر الإسلام على اختلاف أجناسهم وألوانهم، وما كان سبب قوتنا في الماضي إلا اجتماعنا على لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لا أدعي في هذا المقال أنني سأتمكن من حل هذه المشكلة العميقة التي تواجه الأمة الإسلامية الآن، ولكنني أكتب “معذرةً إلى ربكم”، محاولًا تسليط الضوء على مواضع الخلل التي أدت إلى تزايد الفرقة والاختلاف بين المسلمين. هذه المحاولة تهدف إلى إعادة ترتيب الأولويات، والبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا التفرق، وتجنب تكرار الأخطاء التي مزقت وحدة المسلمين عبر العصور. رغم أن هذه النظرة قد تبدو حالمة وغير واقعية، إلا أن محاولة فهم الماضي وتحليل أسباب التفرقة هي خطوة ضرورية للوصول إلى مستقبل أفضل، يتسم بالوحدة والقوة
لذلك أدعو كل مسلم ومسلمة، أن يتفكروا في حال أمتهم، وأن يتذكروا أن الفرقة والاختلاف لا يجلبان إلا الضعف والهوان. دعونا نترك الجدل العقيم والخلافات الهامشية، ونعمل معًا على تقوية صفوفنا، والدفاع عن عقيدتنا، ونشر الخير. قال الله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا” [آل عمران: 103]، فهذه دعوة من الله إلى الوحدة والاتحاد، وهي التي نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدِ من ضل عن طريقك، واجعلنا من دعاة الوحدة والإخاء. اللهم اجعلنا سببًا في جمع شمل هذه الأمة، وأصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان.
آمين
مصطفى الشرقاوي