المعنى الأصلي لـ”السلفية” هو الالتزام بالدليل الشرعي الذي هو قول الله وقول رسوله ﷺ، ولكن بفهم السلف. وإذا أُريدَ للتعريف أن يكون أكثرَ دقة استُعِيضَ عن “فهم السلف” بـ “فهم الصحابة” رضي الله عنهم؛ لأن جيلَ الصحابة هو الوحيد الذي لم يكن فيه انحرافٌ منهجي أو عقَدي.
وقد ظهر في العقود المتأخرة مُنتسِبون للسلفية تفرّغوا لترويج مجموعة من الفتاوى والمواقف التي تُضفِي الشرعية على طغاة هذا العصر وتُجرِّم وتُفسِّق وتُبدّع بل وتكفّر مَن يخالفهم. ثم تمكَّن هذا التيار -بدعمٍ من الحكومات- من نشر أساطيرَ منسوبة إلى الفكر السلفي بطريقة فعَّالة جعلتْ هذه الأساطير ملتصقةً بالسلفية حتى انطَلى على الكثير أنها فعلا مواقفُ السلف!
وقد اشتهر هذا التيار باسم الجامية مرة والمدخلية أخرى تبعًا للرموز الذين كان لهم دورٌ في إنشائه، لكنه في الحقيقة أوسعُ من أن يكون جماعةً واحدة، بل هو فكرةٌ أو منهج انضوى تحته عددٌ كبير من علماء السلطة والمأجورين من طلبة العلم وبعض المخدوعين الذين عادةً ما يعودون للحق ويتركون هذا المنهج.
وسوف نُطلِق على كل مَن يتبنَّى هذا المنهج في هذا المقال اسمَ “الخلوف”، وهو اصطلاح سبق أن استخدمه الشيخ محمد سرور رحمه الله في وصفهم؛ لأن فيه مضادةً لمعنى السلفية.
وهذا سردٌ ونقدٌ لبعض أساطير هؤلاء “الخُلُوف” نبيّن فيه طرفًا من خِداعِهِم وألاعِيبِهِم..
الأسطورة الأولى
هي زعمُ “الخلوف” أنهم امتداد للسلفية الحقيقية في التمسك بالالتزام بالدليل الشرعي وَفقَ فهم الصحابة، وهو زعمٌ انتقائي؛ لأنهم حين يتناولون السياسة وشؤونَ الحكم والجماعاتِ الإسلامية يتخلّون عن السلفية إلى كل المناهج الأخرى.
فهم -مع الحكام- مرجئة، بل أسوأ من المرجئة؛ لأن المرجئة يكتَفُون باعتقاد إسلامِ مَن صدَّق بقلبه، ولا يتبرعون بتزكيتهم والثناء عليهم، بينما هؤلاء يُزكّون الحكامَ الذين يحاربون الإسلام وأهلَه ويتآمرون مع أعدائه ويتسابقون إلى الثناء عليهم وتزكيتهم.
وهم معتزلة حين يُقدِّمون المصلحةَ على النص في اعتقادِ أن المصلحةَ في منع الإنكار على الحكام، بينما النصوص واضحة في وجوبِ الأخذِ على يدِ الظالم وأطرِه على الحق أَطرًا، بل هم أسوأ من المعتزلة أيضًا؛ لأن المعتزلةَ يرَون المصلحة في الإنكار على الحكّام، بل يؤمنون أن الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر سادسُ أركان الإسلام!
وهم خوارجُ مع خصومِ الحكام؛ فقد تَفرّغوا لتَجريمِهِم وتفسيقِهِم وتبديعِهِم وربما تكفيرهم، بل هم أسوأ من الخوارج في ذلك، فإن الخَوارجَ إنما يُكفِّرون مَن يرتكب الكبائر، بينما هؤلاء “الخلوف” يُجرّمون ويُفسّقون ويُبدّعون مَن يقوم بفريضةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو مجاهدة الظلمة تنفيذًا لأوامر الشرع.
وهم شيعةُ في إضفاءِ العِصمة على الحُكَّام، وإن لم يصرحوا بذلك؛ فخلاصة موقفهم أن الحاكمَ لا يُخطِئ، وهو دائما موفَّق ومَن يتهمه بالخطأ فقد تجاوز على معصوم. وإضفاءُ تلك العصمة على الطغاة يجعلهم أسوأ من الشيعة، فبعض أئمةِ الشيعة صحابةٌ مشهودٌ لهم بالجنة، أو من أفاضل التابعين وأتباع التابعين، بينما المعصوم عند “الخلوف” هم طغاة مجرمون أعداء للدين، أو أقل حالاتهم أنهم ظلمة فاسقون.
وهم باطنيةٌ في تفويض كل شؤون الدولة والأمة للحاكم، واعتقاد أنه يُدرِك ما لا يدركه الآخرون، ويعلم ما لا يعلمه الآخرون، وهو دائما أعلم بالمصلحة، وحتى لو بدا أن ما يعمَلُه الحاكم من أعظم المفاسد؛ فلا شك عندهم أن فيه أسرارًا لا تعلمها الأمة تجعل من موقفِه مصلحة راجحة!!
ولا بأس عندهم -أيضًا- أن يتجاوزوا نطاق الشأن السياسي إذا رغب الحاكم بذلك، فلديهم استعداد للفُتيا بإزالة الحواجز بين الأديان مثلما يفعل “محمد العيسى”، وإجازة المعاملات المقطوع بحرمتها مثل: فتوى التأمين، أو تحريم المقطوع بوجوبه مثل: الجهاد في سبيل الله، وهي قضايا تنسِفُ الفكر السلفي الحقيقي من قواعده. والأغرب من ذلك أن لديهم استعدادًا لتغيير الفتوى ١٨٠ درجة إذا رغب الحاكمُ بذلك، كما حصل في فتاوى الاستعانة بغير المسلمين!
الأسطورة الثانية
هي الخَلطُ بين الخروج “العقدي الاصطِلاحي” الذي تُوصَف به فئة الخوارج الذين يؤمنون بتكفير مَن لا يستحق التفكير، والخروج “السياسي اللغوي” الذي فيه سعيٌ لإزالة الحاكم فقط دون خلل في عقيدةِ مَن يقوم به، فهؤلاء “الخلوف” يُطلِقون وصفَ (خارجي) بالمعنى العقَدِي على كل مَن لم يعتبر الحاكمَ إمامًا شرعيًا له بيعة وطاعة، وقد ترسَّخَ هذا الخلط حتى صار استخدامُ التعبير بنفس المعنى هو الأصل وليس الاستثناء.
وقد عمت البلوى بهذا الخلط حتى لم يَسلَم منه كثير من طلبة العلم المتأخرين غير المتَّهَمين بموالاة الطغاة. والحقيقة أن الأمرين ليس بينهما تشابُه إلا بالاسم، ولولا دعمُ الحكومات الظالمة بالإعلام والتعليم وتغليب العلماء المزَوِّرِين في منصات العلم الشرعي وتراكُم هذا التزوير مع الزمن؛ لَمَا اختلط الأمرُ على الناس.
وإحالة الخَلْط بين الخروجِ العقدي والسياسي إلى السلف جريمة كبيرة؛ لأن منهجَ السلف واضح في التفريق بين الأمرين، ولم يقع فيه أحدٌ منهم. ومن المحزن أن هذا الخلطَ كان له أثرٌ في تخويفِ الناس من التمرُّدِ على سُلطة الطغاة الذين ليس لهم أيُّ حق في الطاعة الشرعية، وذلك من خلال تنزيلِ الأحاديث التي وردتْ على الخروجِ العقَدي على كل مخالفةٍ للحكام. ولأن هذه الأحاديثَ وَصفَت الخوارج بالمفهوم العقدي وصفًا سيئًا جدًا، وحثَّتْ على قتلِهم؛ فكان هذا الخلط خدمةً عظيمة يُقدِّمها الخلوف لطغاة هذا الزمان.
الأسطورة الثالثة
هي إضفاءُ الشرعية على كل حاكمٍ يدَّعِي الإسلام، وإيجابُ طاعته، وتحريمُ الخروج عليه حتى لو كان نظامُ حكمه قائمًا على كفرٍ بواح في الاحتكام لغير الشريعة وموالاةِ أعداء الإسلام وتعطيل شعائر الدين، بل لو كان محاربًا للإسلام ناشرًا للفساد بقوة السلطة، فضلًا عن الظلم والاستبداد. والكفر البواح عندهم لا يُمكِن أن يُعتبَر إلا أن يعلن الحاكم بلسانه أنه كافر، مع أنهم وجدوا مخرجًا حتى لهذه الحالة في إيجاب طاعة الحاكم!
والسلفية الحقَّة لا تعترف بأي حاكمٍ لا يقيم أركانَ الحكم الإسلامي الأساسية، وكلُّ كلام علماء السلف الذين لا يرَون الخروجَ على الحاكم الظالم المستبِد إنما يقصِدون مَن أقام أركان الحكم الأساسية في الإسلام؛ وهي توحيد كلمة المسلمين وتحكيم الشرع وإقامة شعائر الدين والالتزام بالهوية الإسلامية للدولة، ولكنه مستبد وظالم.
الأسطورة الرابعة
ادعاءُ إجماع علماء السلف على تحريم الخروجِ “السياسي” على “أئمة الجور”، وهذا زعمٌ تُكذِّبه الحقائق الصارخة بمواقف كثير من علماء السلف، بل بخروج عددٍ من الصحابة والتابعين على الحكام في زمانهم. وقد اعتبر ابنُ حجر الخروجَ على أئمة الجور مَذهبًا قديمًا للسلف، ولابن حزمٍ كلام شديد في نفي الإجماع يقول فيه مشيرا إلى أحد العلماء الذين ادعوا ذلك الإجماع: ” ورأيت لبعض مَن نصب نفسه للإمامة والكلام في الدين فصولًا ذكر فيها الإجماع؛ فأتى فيها بكلام لو سكت عنه لَكان أسلمَ له في أُخراه، بل الخرسُ كانَ أسلمَ له، فإنه ادّعى فيه الإجماعَ أنهم أجمعوا على أنه لا يُخرَج على أئمة الجور، فاستَعظَمتُ ذلك، ولعَمري إنه لعظيمٌ أن يكون قد عُلِمَ أن مخالفَ الإجماع كافر، فيُلقِي هذا إلى الناس وقد عُلِمَ أن أفاضلَ الصحابة وبقية السلف يومَ الحرَّةِ خرجوا على يزيدٍ بن معاوية، وأن ابنَ الزبير ومَن تابعه من خيار الناس خرجوا عليه، وأن الحسينَ بن عليٍّ ومَن تابعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضًا، رضي الله عن الخارجين عليه، ولعن قَتَلَتَهم، وأن الحسنَ البصريَّ وأكابرَ التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم، أترى هؤلاء كفروا؟ بل واللهِ مَن كفَّرهم فهو أحقُّ بالكفر منهم، ولعَمرِي لو كان اختلافًا -يخفى- لعذرناه، ولكنه مشهور يعرفه أكثرُ مَن في الأسواق، والمُخدَّراتُ في خدورهنَّ”
وبناءً على ادعاء الإجماع فإنهم ينسِبون للسلف تأثيمَ وتجريمَ كل مَن يخرج على الحاكم، والحقيقة أن هذا افتئاتٌ على السلف؛ لأن مَن كان لا يرى الخروجَ على الحاكمِ الظالمِ من السلف كان ينظُر إلى الرأي الآخَرعلى أنه خلافٌ معتَبَر، وأن مَن يقول به مجتهدٌ مخطئ مأجور، وإلا فمَن يستطيع أن يعتبرَ خروجَ الحسين رضي الله عنه جريمةً أو إثمًا؟
الأسطورة الخامسة
أن الخلوفَ يزعمون أن الخروج لا يُشترَط أن يكون بالسلاح، فكل إنكار على الحاكم أو انتقاد له يجري عليه حكمُ الخروج الذي يُصبِح -طِبقًا للأسطورة الثانية- خروجًا عقَدِيًّا، ويستحِقُّ فاعلُه عقوبةَ الخوارج، بل يبالغ بعضُهم فيجعل عدمَ احترامِ الحاكم ومحبتِه قلبيًا من أنواع الخروج الآثم. وهذا كذبٌ وافتِئاتٌ على السلفية الحقيقية، ومواقفُ علماء السلف مناقضة لموقف الخلوف، فقد اعتبروا الإنكارَ على الحاكم وأطرَه على الحق واجبًا شرعيًا يأثم مَن يتخلَّف عنه، ومعظمُهم باشَرَ الإنكارَ بنفسِه ولقِيَ من العنَت في سبيل ذلك ما لاقى، والتاريخ الإسلامي مليء بنماذج علماء السلف الذين تصدَّوا لظلم الحكام وفسادهم.
الأسطورة السادسة
ادِّعاء الخلوف أن الاقترابَ من الحكام الظلمة والفاسدين والثناء عليهم والدفاع عنهم وذم خصومهم؛ هو المنهج السلفي. بينما علماء السلف الحقيقيون يصِفونَ الحاكم الظالمَ المستبد بما فيه من ظلم واستبداد وفساد، ولا يُزكّونه ولا يُثنُون عليه، ويتحاشَون الاقترابَ منه، ويتَّهمون مَن يزكيه ويثني عليه بخيانةِ أمانة العلم. وحتى الإمام أحمد بن حنبل الذي طالما تشدَّقَ بالانتساب إليه الخلوفُ كان يعتبرُ الترددَ على مجالسِ الحكام الظلمة مَثلَبة ومَذمَّة.
الأسطورة السابعة
هي قول الخلوف إنَّ قولَ كلمة الحق والسعي لرفع الظلم إنما هو من إثارة الفتنة وخَلْق الفوضى والتأليبِ على ولاة الأمر، ويحتج بعضُ المتعالمين منهم بقوله تعالى: {والفِتنة أشدّ من القتل}، وهم بذلك يكرِّرون قولَ كفار قريش: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}، حيث اعتبروا دعوةَ النبي ﷺ سببًا في ذهاب الأمن الذي يعيشونه وهَيبة قريش بين العرب.
وهذا القولُ قولٌ مبتدَع لم يقل به أحدٌ من السلف الحقيقيين، بل إن نصوص الكتاب والسنة وثوابت التاريخ قد أكدتْ على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإزالة الظلم والفساد هي المانعة من الفوضى وانعدام الأمن، والعكس صحيح؛ فالسكوت عن الظلم والفساد هو المؤدِّي إلى العقوبة الإلهية التي يمكن أن تكون فوضى وانعدامًا للأمن.
في الحديث الصحيح قال النبي ﷺ: “إن أولَ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودعْ ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيلَه وشريبَه وقعيدَه، فلما فعلوا ذلك ضربَ الله قلوبَ بعضِهِم ببعض، ثم قرأ: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} إلى قوله تعالى: {فاسقون}، ثم قال: «كلا والله لتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنهَوُنَّ عن المنكر، ولَتَأخُذُنَّ على يدَيِ الظالم، ولتَأطُرُنَّه على الحق أَطْرًا، ولَتَقصُرُنَّه على الحق قَصْرًا».
وقد نص ابن تيمية رحمه الله في تفسيرِه قولَه تعالى: {ألا في الفتنة سقطوا} على أن الفتنةَ إنما تكون في تركِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس في القيام به. وقد كان دأبُ علماء السلف طيلة التاريخ الإسلامي مواجهةَ الحكام بظُلمهم وفسادهم ومخالفاتهم، ولم يترك أحدٌ منهم ذلك خوفًا من الفتنة، بل فعلوه دفعًا للفتنة.
الأسطورة الثامنة
تنزيلُ أحكام الدولة الإسلامية الواحدة على الدول القُطرية الحديثة؛ فكل مسلم عند “الخلوف” مُلزَمٌ ببيعة مَن يحكُمه أيًا كان حجم الدولة وعددُ سكانها. وتبعًا لذلك فإنهم يُنزِلون الحديثَ الصحيح: «مَن مات وليس في عُنُقِه بيعة ماتَ مِيتة جاهلية» على كل الحكام. وإذا وُجِّه لهم سؤال: ما هو حكم الذين يعيشون في أوروبا والهند والصين أو داخل فلسطين ٤٨ هل يموتون ميتةً جاهلية؟ وماذا عن جيلٍ أو جِيلَين أو أكثر من الباكستانيين والبنغال في السعودية والخليج هل يُبايعون حكامَ الخليج؟ وهم لم يُعطوهم الجنسية؟ وماذا عمن يحملُ أكثرَ من جنسية من جنسيات دول الخليج؛ هل يبايِع كلَّ مَن يحمل جنسيتَه؟
وعلى كل حال؛ فقد حسم الإمام أحمد بن حنبل الأمرَ حين سُئل عن هذا الحديث: فقال: «تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يُجمِع المسلمون عليه، كلهم يقولُ هذا إمام». أي: حين تكون الأمة واحدةً وراضيةً بحاكمها فحينئذ لا يجوز الخروج عن بيعته، وهذا لا يتحقق إلا بالخلافة الراشدة التي يَستظِل بها كلُّ المسلمين ويكون الحاكمُ قد استلم السلطة بالشورى ورضا الأمة.
الأسطورة التاسعة
احتجاج “الخلوف” بالأحاديث التي تدل على سِريَّة النصيحة للحاكم، وأشهرها: حديثا أسامة وحديث عياض بن غُنم رضي الله عنهما، ولو كان الاحتجاج بهذا الدليل مانعًا من الإنكار على الطغاة والظلمة لَكان الصحابةُ والتابعون وعلماء السلف أولى بالعمل به، فلماذا يمتلئ التاريخُ بنماذج إنكارهم العلني على الولاة الظلمة؟
على أن إنكارَ المنكر والظلم والطغيان والاستبداد ليس نصيحةً، بل هو براءةٌ للذمة أمام الأمة؛ لأن الذمةَ لا تبرأ إلا بمعرفة الناس أن هذا منكر وهذا ظلم …إلخ وهذا لا يتم إلا علنًا، وفي الحديث الصحيح: “ما مِن نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ في أُمَّةٍ قَبْلِي إلَّا كانَ له مِن أُمَّتِهِ حَوارِيُّونَ، وأَصْحابٌ يَأْخُذُونَ بسُنَّتِهِ ويَقْتَدُونَ بأَمْرِهِ، ثُمَّ إنَّها تَخْلُفُ مِن بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يقولونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ويَفْعَلُونَ ما لا يُؤْمَرُونَ، فمَن جاهَدَهُمْ بيَدِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بلِسانِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، وليسَ وراءَ ذلكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ.» وفي الحديث الثابت قوله ﷺ: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وقوله ﷺ : «سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله». والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
الملحق الأول
تعريف الخروج العقدي والخروج السياسي
أُطلِقَ الخروج العقدي الاصطلاحي أول مرة على الخوارج “الحرورية” الذين خرجوا على سيدنا عليٍّ رضي الله عنه، والذين كان انحرافهم الأساسي: “تكفير مَن لا يستحق التكفير” حتى كفّروا عليًّا ومعاويةَ وكلَّ مَن قاتل معهما، ثم تتابعت الفرق الخارجية بتفرُّعات مختلفة يجمعها شيء واحد هو: التساهل في التكفير. وهذا لا شكَّ بدعة محرمة وفكرٌ ضال وانحراف عقدي.
وهؤلاء هم الذين جاءت الأحاديث في ذمهم والتحذير منهم والحث على قتالهم، ومنها حديث البخاري: بَعَثَ عَلِيٌّ رَضيَ اللهُ عنه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذُهَيْبَةٍ، فَقَسَمَهَا بيْنَ الأرْبَعَةِ: الأقْرَعِ بنِ حَابِسٍ الحَنْظَلِيِّ ثُمَّ المُجَاشِعِيِّ، وعُيَيْنَةَ بنِ بَدْرٍ الفَزَارِيِّ، وزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ، وعَلْقَمَةَ بنِ عُلَاثَةَ العَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ والأنْصَارُ، قالوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ ويَدَعُنَا! قالَ: إنَّما أَتَأَلَّفُهُمْ. فأقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاتِئُ الجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقٌ، فَقالَ: اتَّقِ اللَّهَ يا مُحَمَّدُ، فَقالَ: مَن يُطِعِ اللَّهَ إذَا عَصَيْتُ؟! أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ علَى أَهْلِ الأرْضِ فلا تَأْمَنُونِي! فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ -أَحْسِبُهُ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ- فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا ولَّى قالَ: إنَّ مِن ضِئْضِئِ هذا -أَوْ: في عَقِبِ هذا- قَوْمًا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإسْلَامِ ويَدَعُونَ أَهْلَ الأوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ… الحديث.
أما الخروج السياسي اللغوي فهو السعي لإزالةِ الحاكم أو نظام الحكم واستبدالِ حاكم بآخَر، وهذا ليس له علاقة بالخروج العقدي أصلًا؛ فقد فعله عددٌ كبير من الصحابة والتابعين على رأسهم الحسين رضي الله عنه، ولم يخطر ببال أحدٍ من العلماء المعتبرين أن يُجرِّمهم فضلا عن أن يتَّهمهم بالبدعة والانحراف العقدي، بل حتى مَن سعى لإزالة الحاكم منافسةً له على السلطة لم يُصنَّفْ خارجيًا بالمفهوم العقدي مثلما فعل عبد الملك بن مروان مع ابن الزبير، ومثلما فعل العباسيون مع الأمويين.
الملحق الثاني
التصنيف السلفي الصحيح لأنظمة الحكم وموقف علماء السلف منها
الأول: نظامٌ مؤدٍّ لأركان الحكم الإسلامي، موحِّدٌ لكلمة المسلمين، ملتزمٌ بالشورى، محققٌ للعدل؛ فهذا خلافة راشدة لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز الخروج على الحاكم فيها، والخارج عليه آثِم، وهو المقصود في الحديث الصحيح: «مَن أتاكم وأمرُكُم جَمِيْعٌ على رجل واحد، يُريد أن يَشُقَّ عَصَاكُم، أو يُفَرِّقَ جَمَاَعَتَكُم، فاقتُلُوهُ». وهذا النوع من الحكم لا يجوز الخروج عليه باتفاق علماء السنة والخروج عليه جريمةٌ عظمى، ولكن رغم عِظَمِ الجريمة لم يصِفْه العلماءُ بالخارجي الحروري، بل اعتبروه من البغاة.
الثاني: نظامٌ مؤدٍّ لأركانِ الحكم الإسلامي، موحدٌ لكلمة المسلمين، لكنه وصل إلى الحكم بالتغلُّب، واستبَدَّ بالسلطة وعُرف عنه الظلم. وهذا حال الأنظمة في معظم عهود الدولة الأموية والعباسية حين كانت دولة المسلمين واحدة والقانون السائد هو الشريعة، وكان الجهاد قائمًا، لكن الحكامَ مستبدُّون ويغلِب عليهم الظلم.
وهذا النوع هو الذي اختلف عليه السلف منذ أيام الصحابة؛ هل يجوزُ السعيُ لإزالته وتغييره إلى حكم قائم على الشورى والعدل أو لا يجوز؟
وسبب الخلاف هو في فهم الأدلة الشرعية والموازنة بينها، وقد ناقش الأستاذ عبدالله الدميجي الخلافَ عند أهل السنة تجاه هذا النوع من الأنظمة في كتابه “الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة”.
والفريق الذي لا يرى الخروجَ على هذا النوع من الأنظمة يفترِق عن الخُلُوفِ بفروقٍ جوهرية في التعامل مع هذا النوع من الأنظمة:
1- حكمهم بشرعيته لا يتم إلا بأدائه أركانَ الحكم الإسلامي الأساسية.
2- يصِفون هذا النظام بما فيه من ظلم واستبداد وفساد ويُنكِرون عليه بما يستطيعون.
3- لا يُثَرّبون على مَن ينكر على النظام، بل يُثنُون عليه ويعتبرون عملَه من أعظم الجهاد.
4- يرَون مَن يخالفهم في الخروج عليه بالسلاح مجتهدًا مخطئًا، وليس خارجيًا.
5- يحرِصون على النأْيِ بأنفسهم عن الظلمة، ويذُمُّونَ مَن يقترب منهم من العلماء.
الثالث: نظامٌ مُعطِّل لأركانِ الحكم الإسلامي الأساسية، فهذا ليس له شرعية دينية ولا بيعة باتفاق العلماء؛ لأنه ليس قائمًا على الإسلام حتى لو زعم الحاكمُ أنه مسلم. ولذلك فلا يُعتبَر المسلمون داخلين في طاعته أصلًا حتى يكون تمرُّدُهم عليه خروجًا سياسيًا فضلًا عن الخروج الحَرورِيّ.
أما الطاعة الجبرية التي فيها التزام بالقوانين العامة؛ فهذه ليست طاعةً تعبُّديةً لله، وإنما هي دفع للضرر ولا يختلف فيها وضعُ المسلم في دولة شعبُها مسلم أو دولة شعبها غير مسلم.
ويُجمِعُ علماءُ السلف الحقيقيون على عدم شرعية النوع الثالث، ولا يعتبرونه إمامةً شرعية، بل لا يعتبرون المسلم قد دخل في البيعة حتى يخرجَ منها، ويرون وجوبَ السعي لإقامة الإمامة الشرعية بأركانها الصحيحة.
والحكم على النظامِ كله من خلال زَعمِ الحاكم أنه مسلم استخفافٌ بالإسلام الشامل المتكامل في نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي .. إلخ. فالنظام السياسي الإسلامي له مقاصدُ من أجلها فُرِضَت الإمامة الشرعية، وإذا تعطَّلَتْ هذه المقاصدُ تعطلت الإمامة ووجب السعيُ لإقامتها.
فلا يُمكِن أن يُعتبَر النظام إسلاميًا إذا لم يكن المرجعُ الشامل للحكم هو الكتاب والسنة، وإذا لم تكن هوية الدولة إسلاميةً بولائِها وعدَائِها، وإذا لم تُؤدِّ السلطة المسلمة مهمتَها في إقامة شعائر الدين. هذا فضلًا عن تحقيق العدل والشورى وضمان مصالح المسلمين. وإذا لم تتحقق هذه المقاصد فالنظام الإسلاميُّ في حكم الغائب الذي يجب إقامتُه، ومِن ثَمّ وجَبَ التعامل مع أي سلطة قائمة على أساس بُطلان شرعيتها.
والحديث الصحيح الذي يستدِل به الخلوف: «إلا أن تروا كفرا بواحا» هو في الحقيقة دليلٌ ضدَّهم؛ فالنبي ﷺ لم يقُل “كافرًا”، بل قال “كُفرًا”، والحكم بغير الشريعة، وموالاة أعداء الإسلام، وتعطيل شعائر الدين، بل تطبيقُ ما يُضادُّها؛ كله كفرٌ بواح، ولا حاجةَ للتكلُّف في تكفيرِ شخصِ الحاكمِ نفسه.
د. سعد الفقيه
رئيس الحركة الإسلامية للإصلاح