الحمد لله .. وبعد،
سأشرع في هذه السطور في كتابة رد على ما قاله الشيخ بسام جرار – حفظه الله – من تجويز الترحم على من مات على غير الإسلام.
والحقيقة أنني لست من متابعي الشيخ – وفقه الله – لكن عند سماعي لكلامه وقراءة حروفه؛ بدا لي بجلاء أن الإشكال مع الشيخ إشكال منهجي ليس بالهين في طريقة الاستدلال؛ فالشيخ عفا الله عنه وقع في إشكالات أصولية وخلل عظيم في فهمه لمسألة الأدلة والاستنباط، وغابت عنه أبسط مسلمات الصنعة الفقهية عمومًا؛ فأتى – غفر الله له – بأشياء عجيبة سماها أدلة، فأودت به لقول شديد البطلان في مسألة عقدية راسخة لا تقبل الاجتهاد إلا بما يفعله أهل الأهواء والبدع.
لكن قبل الخوض في نقض استدلالات الشيخ – عفا الله عني وعنه – وما رأيته من حالة التيه التي وقع فيها خلق كثير من وراء كلام الشيخ وغيره؛ ارتأيت أن من لوازم الرد التقديم بمقدمة تأصيلية مهمة لكل مسلم، من عَقِلَها أدرك من دينه الشيءَ الكثير، فأقول:
مسائل الدين من حيث الوقوع تنقسم إلى نوعين:
الأول: مسائل قديمة وقعت في الأزمنة الأولى وتكلم فيها السلف بأقوال وبينوا أحكامها.
وهذا النوع لا يجوز فيه الخروج عن أقوال السلف والأئمة سواء اتفقوا على قول أو اختلفوا على أقوال.
قال الشافعي: “وأجمعوا أنه لا يجوز لأحدٍ أن يخرج على أقاويل السلفِ فيما أجمعوا عليه، وعما اختلفوا فيه أو في تأويله؛ فإن الحقَ لا يجوز أن يخرج عن أقاويلهم”.
الثاني: مسائل نازلة لم تقع في أزمانهم؛ فيجتهد فيها أهل العلم لإلحاقها بأصول الشريعة وفروعها، كالكلام مثلًا عن حكم التبرع بالأعضاء.
ولو نظرنا في مسألة الترحم؛ فقطعًا هذه من النوع الأول؛ لأن موت الكفار واقع في كل زمان، فليست هي مسألة جديدة؛ ولم يُنقل عن صحابي واحد أو فقيه أو مفسر على مدار 1400 سنة مثل هذا القول الذي يتبناه الشيخ؛ بل جل الأقوال على خلافه وسأبين ذلك؛ بل ومقتضى قول الشيخ أن الصحابة وعلماء الأمة غابت عنهم هذه المسألة أو جهلوا حكمها حتى أبانها الشيخ ومن قال بقوله، وهذا قول شنيع جدًا.
حسنًا، سأتعقب الآن بعض استدلالات الشيخ المتوهَّمة:
01- ذهب الشيخ للتفريق اللغوي بين الرحمة والاستغفار وظن أن مجرد وجود فرق لغوي دليل على تباين الحكم الشرعي؛ وهذا خطأ؛ لأن الكلام الآن عن الحكم الشرعي للرحمة المتعلقة بما بعد الموت؛ فنحن لا نناقش عموم الرحمة؛ فالله عز وجل أنزل رحمة من رحماته في الدنيا يصيب بها المؤمن والكافر
قال الله: [ فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ] وهذا نوع رحمة تصيب الكفار بلا شك.
ونحن لا نجادل في هذا؛ بل الكلام في النفع الأخروي؛ فالاستدلال بالمعنى اللغوي للرحمة خارج محل النزاع أصلًا، ثم وجود الفرق اللغوي بين الترحم والاستغفار لا يعني بالضرورة وجود فرق شرعي في الحكم.
والمعنى الأخروي هنا يجتمع فيه المعنيان: الاستغفار والرحمة؛ لكونهما يأتيان – في حق الكافر – بطلب العفو عن شيء من العذاب والعقوبة.
والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، وإن اختلف المعنى اللغوي.
ونصوص الشريعة تواترت على التفريق بين الرحمة العامة والرحمة الخاصة التي نعنيها هنا برحمة ما بعد الموت.
قال الله عز وجل: [ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ]
فالرحمة رحمتان: عامة في الدنيا للخلق الكافة .. وخاصة في الآخرة لأهل الإيمان كما أبانها الله عز وجل وخصصها في الآية.
قال القرطبي: ولم تسع إبليس ولا من مات كافرًا.
ومن ثم كان استدلال الشيخ بالفرق اللغوي لا معنى له.
02- ظاهر كلام الشيخ وغيره أنهم يقولون بأن ثمرة الرحمة هنا تخفيف شيء من العذاب على الكافر رغم خلوده في النار.
قلت: وهذا معنى غيبي لابد فيه من إخبار من نصوص الشرع والوحي، وهذا لم تأت به لغة الشريعة؛ بل نصوص الشريعة تتواتر في معنى عدم تخفيف العذاب على من كفر به.
قال الله عز وجل: [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ]
وهذا نص قاطع في انعدام هذا المعنى القائل به الشيخ وغيره، وتأمل لفظ القرآن [ كل كفور ] لإفادة الاستغراق والشمولية لكل كافر فلا استثناء هنا برحمة ولا دعاء ولا غيرهما.
03- استدل الشيخ عفا الله عني وعنه بقول ربنا: [ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ].
ولإجابة على هذا عند العلماء من وجهين:
• الوجه الأول: إن هذا مما يُرد فيه متشابه القرآن إلى محكمه، والأصوليون يقررون أن القرآن يخصص القرآن بل والسنة تخصصه، والتخصيص هنا معنى واضح جدًا؛ لكن مع شدة وضوحه لعل الشيخ ذهل عنه، فأتى باستدلال أعجب من الخيال لم يسبقه به أحد.
قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري: وقد تحتمل هذه الآية وإن كان ظاهرها عامًا في كل الآباء غير معنى النسخ، أن يكون تأويلها على الخصوص: يعني ارحمهما إذا كانا مؤمنَين.
قلت: وهذا المسلك الأصولي في التخصيص والجمع بين نصوص القرآن هو مسلك أهل السنة والجماعة، أما الاتكاء على نص وترك باقي النصوص كما فعل الشيخ فهذه طريقة بدعية أربأ بالشيخ عن الوقوع فيها.
.
• الوجه الثاني: لعله لم يبلغ الشيخ أن مذهب جماعة من أهل العلم أن الآية منسوخة بقول الله في سورة براءة: [ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ].
وهذا مذهب ابن عباس حبر الأمة وأصحابه وجماعة من أهل العلم
قال ابن جريح: قال ابن عباس: [ وقل رب ارحمهما ] نسختها الآية التي في براءة.
قلت: ولا يخفى على الشيخ أن النسخ عند الأصوليين قد يقع حكمًا مع بقاء لفظ القرآن كما هنا.
فيكون المعنى جعل الدعاء بالرحمة للوالدين منصرفًا إلى المؤمنين وحدهم دون الكفار.
04- من أعجب ما قال الشيخ: أريد دليلًا من القرآن والسنة بعدم جواز الترحم.
وكأن مفهوم الدليل عند الشيخ اشتراط آية تقول: لا تترحموا على المشركين، وهو أقرب ما يكون لمن يقول هاتوا آية من القرآن تقول إن الحجاب فرض!
وهذا من أعظم الخلل في فهم الشيخ لمعنى الدليل الأصولي، ولعل الشيخ – وفقه الله – لا عناية له بطرائق الفقهاء في التعامل مع النصوص فوقع في هذا المأزق.
وربما غاب عن الشيخ أن الدليل يُستنبط من القرآن والسنة بأمور عديدة منها جمع النصوص وتفسيرها وتخصيص عمومها وفهم مدلولاتها وأدلة القرآن متواترة على ذلك ومنها:
قوله تعالى: [ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي ]
قال ابن كثير: يعني لا نصيب لهم فيها
قال الطبري: يئسوا من رحمتي في الآخرة
قال ابن عاشور: لا ينالهم الله برحمة.
ولعل الآية نسيها الشيخ في معرض حديثه؛ بل ومقتضى كلامه وقوع الدعاء بالرحمة كنوع عبث؛ وكأن الله يقول بنفي الرحمة في الآخرة ومع ذلك الشريعة تبيح الدعاء بالرحمة المستحيلة بنص القرآن، وهذا من التناقض الذي وقع فيه الشيخ.
والله يقول: [ وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ] فيغفل الشيخ عن هذا المعنى، ويقول يجوز الدعاء بالرحمة لتخفيف العذاب! وهذا تناقض آخر وقع فيه الشيخ.
والله جل شأنه يقول: [ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ] أي لا تنفعهم شفاعة جبريل والملائكة والنبيين، ومقتضى كلام الشيخ: ينفعهم دعاء العباد بالرحمة، فأيهما أولى بالنفع، شفاعة الأنبياء والملائكة أم دعاء الناس!
أليست هذه أدلة قاطعة من كلام الله تجعل الشيخ هداني الله وإياه يرجع عن قوله كما وعد.
ثم الدليل من السنة من ترك النبي صلى الله عليه وسلم الترحم على عمه، ولم تسطر كتب السنن والآثار والصحاح – فيما علمنا – نصًا واحدًا ولو في أعلى درجات الضعف يثبت عن صحابي واحد ترحمه على كافر مات من أرحامه.
تواتر الترك هذا في مسألة أصولية، ثم إعراض فقهاء الإسلام كافة عن تجويز هذه الصورة لا يعد عند الشيخ بصره الله بالحق دليلًا!
وهل يتصور مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك الدعاء بالرحمة وفاء لعمه الذي آواه ونصره لو كان جائزًا! فلو كان الدعاء بالرحمة جائزًا لانتقل إليه النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة حين نهاه ربه عن الاستغفار لعمه.
05- استدل الشيخ بضعف علمي شديد بحديث الصحيحين لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال صلى الله عليه وسلم: نعم هو في ضحضاح من نار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار.
وفي رواية البخاري: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيُجعل في ضحضاح من النار.
ولا أدري لعل الشيخ اختلط عليه التفريق بين الشفاعة في الآخرة وبين الدعاء بالرحمة، فلا مجال لإعمال القياس هنا فكلامنا الآن عن أمر الدعاء في الدنيا، فما علاقة هذا بأمر أخروي!
بل هذا دليل يضعف موقف الشيخ نفسه، لأنه رغم ورود الشفاعة وجوازها للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ربه نهاه عن الاستغفار والدعاء له؛ وأجاز له نوع شفاعة خاصة في القيامة.
والمتقرر في كتب الاعتقاد والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم له شفاعات خاصة به يوه القيامة؛ هذه إحداهن.
قال ابن حجر في قول الله عز وجل : [ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ]: بأنه مخصوص بالحديث، ولذلك عدوه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: الشفاعة في الكفار امتنعت وهو عام في كل كافر، ويُخص منه من يثبت الخبر بتخصيصه.
ومن ثم كان ذلك خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فما وجه الاستدلال به هاهنا وبين المسألتين بعد المشرقين.
وأخيرًا: أرجو من الشيخ – غفر الله لي وله – أن يعيد النظر في كلامه الذي أوقع خلقًا كثيرًا في هذا التيه في زمن تٌنكس فيه ألوية البراءة، وتخبت فيه جذوة الاعتقاد فذاع الجهل ربوع ديار الإسلام.
ثم أذكِّر الشيخ بموقف يقفه المرء عند الله وقد أقام نفسه على شفير جهنم بتصدره للكلام عن دين الله، فيسأله الله عز وجل من أين قلتَ هذا!
ومع كامل احترامي للإخوة الدعاة الذين لا توجد لديهم أهلية للكلام في مسائل العلم الدقيقة، أناشدكم ترك هذه المسائل للمؤهلين لها حتى لا تضلوا الناس في أصول دينهم.
أسأل الله أن يشرح صدر الشيخ لكلماتي، ويهديه للحق وأن يشرح صدور من ضلوا بكلام الشيخ ويهديهم سواء الصراط .. آمين آمين
والله تعالى أعلم.
الشيخ أحمد سيف