أيها الكادحون إلى الله يجاهدون أنفسهم والشيطان والدنيا؛ آخرُ الكَدْح لقاءُ الله.
“يَآ أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ”؛ يُصارحُك القرآن بحقيقة الطريق إلى ربك بغير جَمْجَمَةٍ أو مُوارَبةٍ، إنه كَدْحٌ، وكَدْحٌ شديدٌ، والكَدْح: جُهد النفس جُهدًا يؤثر فيها، من قولهم: كَدَحَ فلانٌ جِلدَه: أي خدشه. وكيف لا يكون كذلك وكله مجاهدةٌ للنفس وهواها وللشيطان وفتنته وللدنيا وزينتها؛ مجاهدةً مؤثرةً في صاحبها بأنواعٍ من التأثيرات الباطنة والظاهرة! كما قال له في الآية الأخرى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ”، والكَبَد وجعُ الكَبِد وانتفاخُها، وما بقي الإنسان يدافع فتن الشهوات والشبهات في سَيره إلى مولاه؛ فهو في وجعٍ شديدٍ يكاد يُوَرِّمُه. بهذا يُكاشِف القرآنُ أهلَه قبل المُضِيِّ في طريقهم إلى الله.
لكنَّ القرآن وقد فصَّل ذِكْر المشقة تفصيلًا، من أول النداء في الآية إلى المفعول المطلَق؛ فقد أجمل العاقبة في لفظةٍ واحدةٍ هي “فَمُلَاقِيهِ”؛ فكيف هذا! لأن الملاقَى آخرَ الطريق الله، وإذا كان ذلك كذلك فإن حَسْب الملاقِي الملاقَى.
يا أيها المبتلَون باستمساكهم بدينهم الحق، شعورًا بالغربة بين أهليهم وأصحابهم، أو استهزاءً بهم فيما يُمَسِّكون به من عقائد الإسلام وشرائعه، أو سجنًا في سبيل الله، أو مطارَدةً، أو هجرةً، أو تضييقًا في معاشٍ؛ إنكم لا تلقون آخرَ الطريق إذا صبرتم فيه صبرًا جميلًا غير ربكم، وما ربُّكم إلا الله الذي عرفتموه فأحببتموه، وأحببتموه فعبدتموه، وعبدتموه فكان حقًّا عليه أن يرضيكم إرضاءً.
يا معشر الغرباء ابتغاء مرضاة الله لا يُبالون بالكثرة الفارغة حولَهم؛ أليس يكفيكم إذا لاقى أهلُ الدنيا آخرَ لهوهِم ولعبِهم وجهَ الشيطان الأغبرَ يَقْدُمُهم إلى جهنم، يُزَجُّ بهم فيها على أَقْفِيَتهم؛ أن تلاقوا أنتم وجهَ الله الأقدسَ، فيحشركم مع المتقين إليه وفدًا، ثم يجمعكم على حوض نبيه الكوثر، فتشربون بأيديكم من يده الشريفة شربةً هنيئةً مريئةً لا تظمؤون بعدها أبدًا، ثم يَقْدُمُكم رسولُكم بنفسه إلى الجنة، فيستفتح لكم أبوابها، ثم تدخلونها فتَخْلُدون في جواره والنبيين، ثم يَسْتزِيرُكم ربُّكم فيها فتزورونه في يوم المَزيد، حتى إذا صرتم بالجلال إليه ودخلتم بالجمال عليه، وجلستم على كُثبان المسك مستبشرين؛ قال لكم الرب تبارك في ذاته وتعالى في صفاته: يا أهل الجنة، فتقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم! فتقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تُعْط أحدًا من خلقك! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك! فتقولون: يا رب؛ وأيُّ شيء أفضل من ذلك! فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا! آهٍ وأَوَّاهُ وأَوَّتَاهُ ووَاهًا، اللهم رحمةً وعونًا وغفرانًا.
أمسِكْ بقلبكَ أنْ يطيرَ مُوَلَّهًا ** وتَوَلَّ عنْ دُنياكَ حتى حِينِ
ربَّاه مرحى بالكَدْح ومرحبًا ما كنتَ الملاقَى من بعده؛ لكن ثبِّتنا وثبِّتنا وثبِّتنا.
حمزة أبو زهرة