«الْحَسَد مرضٌ من أمراض النَّفس وَهُوَ مرضٌ غَالبٌ فَلا يخلص مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس، وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَدٌ من حسدٍ، لَكِنَّ اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه، وَقد قيل لِلْحسنِ الْبَصْرِيِّ: أيحسد الْمُؤمن فَقَالَ مَا أنساك إخوة يُوسُف لا أَبَا لَك وَلَكِنْ عَمِّه فِي صدرك فَإِنَّهُ لَا يَضرُّك مَا لم تَعْدُ بِهِ يدًا وَلِسَانًا، فَمن وجد فِي نَفسه حسدا لغيره فَعَلَيهِ أَن يسْتَعْمل مَعَه التَّقْوَى وَالصَّبْر فَيكْرَهَ ذَلِك من نَفسه، وَكثيرٌ من النَّاس الَّذين عِنْدهم دينٌ لا يعتدون على الْمَحْسُود فَلا يعينون مَن ظلمه وَلَكنَّهُمْ أَيْضًا لا يقومُونَ بِمَا يجب من حَقِّه بل إِذا ذمَّه أحدٌ لم يوافقوه على ذمِّه وَلا يذكرُونَ محامده وَكَذَلِكَ لَو مدحه أحدٌ لسكتوا وَهَؤُلاء مدينون فِي ترك الْمَأْمُور فِي حَقِّه مفرِّطون فِي ذَلِك لا معتدون عَلَيْهِ، وجزاؤهم أَنهم يُبخسون حُقُوقهم فَلا يُنْصَفون أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ وَلا يُنْصرُونَ على من ظلمهم كَمَا لم يَنْصرُوا هَذَا الْمَحْسُودَ، وَأمَّا من اعْتدى بقولٍ أَو فعلٍ فَذَلِك يُعَاقَب، وَمن اتَّقى اللهَ وصبر فَلم يدْخل فِي الظَّالِمين نَفعه الله بتقواه»
[«أمراض القلب وشفاؤها» لابن تيمية (٢١)]
====
هذه عبارة دقيقة ، نقلت عن بعض أهل العلم المتقدمين ، وفيها سبر عميق لأغوار النفس البشرية ، وطبيعتها المعقدة والمركبة والتي تجمع ما بين خيوط ومشاعر متقابلة ، و غالبا ما يضايقها تميز الآخرين عليها في أي أمر ذي مطمع ، لأن هذا التميز يشعرها بالنقص والتقصير ، ويستفز مكامن الأنانية فيها .
ولا تكاد العلاقة بين الأقران والمتنافسين في أي مجال تخلو من نوع حسد ظاهر أو خفي ، وكراهية لاختصاص الآخرين بفضل ما .
ولا يسلم من الحسد كله – ظاهره وباطنه – إلا الأقلون من أصحاب النفوس الصافية ، والقلوب الطيبة ، الذين يرضون بما قسم الله لهم ، ويقنعون تماما بما رزقوا من حظوظ ، و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي غيرهم ، ودأبهم تمني الخير للناس أجمعين ، وهم في ذلك كله ممتثلون للأمر الإلهي ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى )
ومن أروع الأمثلة في هذا الباب نموذج الأنصار رضوان الله عليهم الذين قال الله فيهم ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )
وأما غالب الناس – من أمثالنا – فنفوسهم ضعيفة ، وقلوبهم متقلبة ، ويندر أن يخلو أحدهم من نوع حسد ، أو حظ نفس ، ظاهر أو خفي ، في تعامله مع الآخرين .
ونصيحتي – لنفسي ولك – أن تجاهد نفسك ما وسعك الجهد ، فإن قلعت جذور الحسد كله ظاهره وباطنه ،فالحمد لله على إنعامه وتوفيقه ، وإن بقيت منه بقايا قليلة أو كثيرة لم تستطع التخلص منها ، فاجعله كامنا في النفس ، واحذر ثم احذر :-
– أن يظهر في صورة كلام تنتقص به المحسود ، أو تلمزه ، أو تغتابه ، أو تنسب له ما ليس فيه .
– أو أن تجتهد في نفي ما لديه من خير وإحسان أو تميز .
– أو أن تحمل له في صدرك غلا أو حقدا .
– أو أن توصل إليه أذى حسيا أو معنويا .
والله المستعان سبحانه أن يطهر قلوبنا ويزكيها .
د. أحمد قوشتي