إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله وخليله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد؛
فهذه وقفات مع مؤمن آل فرعون، ولماذا نقف مع مؤمن آل فرعون؟
- أحق ما يحرص عليه طالب العلم تفسير آيات القرآن والوقوف على قصصه ومواعظه.
- ونحن في هذا الزمان في أشد الحاجة لمعرفة سيرة القدوة الذي يثبت أمام الفتن مع أن هذا المؤمن من طبقة مترفة فلم يرض بالذل فهو من قوم فرعون.
- نحن نعيش في زمن الفتن المتلاطمة والأحداث المتسارعه فلابد لنا من زاد من علم وعبادة يعيننا على الثبات أمامها.
الوقفة الأولى: من هو مؤمن آل فرعون ؟
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُومُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، قال ابن كثير: المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطياً من آل فرعون، قال السدي: كان ابن عم فرعون ،ويقال إنه الذي نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام، واختاره ابن جرير ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيلياً لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجل بالعقوبة لأنه منهم وقال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون والذي قال: {يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20]، رواه ابن أبي حاتم.
وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ} [غافر: 26]، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل؛ تفسير ابن كثير.
الوقفة الثانية: يقول ابن كثير: (ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ} [غافر: 28]، اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبد الله بن عمروبن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبوبكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ}» (انفرد به البخاري))؛ تفسير ابن كثير (79/4)، فإنه «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» كما في الحديث.
الوقفة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين يقول الله عز وجل في صفة نبيه عليه السلام: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. وقال عليه السلام «الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم والصلاة سهم والزكاة سهم وحج البيت سهم والجهاد سهم والصيام سهم والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم والجهاد في سبيل الله سهم وقد خاب من لا سهم له» الراوي: حذيفة بن اليمان (المحدث: -المصدر: مجمع الزوائد- الصفحة أو الرقم:1/43، خلاصة حكم المحدث: فيه يزيد بن عطاء وثقه أحمد وغيره وضعفه جماعة وبقية رجاله ثقات).
وروي أن رجلا جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال: إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين، قال وما هما؟، قال: لا أمر بالمعروف ولا أنهى عن منكر، فقال عمر رضي الله عنه: (لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء الله غفر لك وإن شاء عذبك).
الوقفة الرابعة: الاستطاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نسبية، ولا تلغي وجوبهما ومن الثابت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم ومناط الوجوب هوالقدرة والاستطاعة والإمكان قال الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]، يقول عليه الصلاة والسلام: «فإذا أمرتُكم بشيٍء فأتوا منهُ ما استطعتم وإذا نهيتُكم عن شيٍء فدعوهُ» الراوي: أبوهريرة، (المحدث: مسلم -المصدر: صحيح مسلم- الصفحة أو الرقم: 1337خلاصة حكم المحدث: صحيح).
وعلى هذا فكل مسلم عليه من وجوب الأمر والنهي ما يناسب قدرته ولا يسقط هذا الواجب بأي حال أو وجه وكل على حسب حاله فالمديرة والأم والأخت كبيرة عليهم من هذا الواجب وأدنى مراتب الإنكار هي ما يكون في القلب.
الوقفة الخامسة: فن الحوار مع فرعون: يحاور مؤمن آل فرعون هذا الجبار ويقول: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، يقول الشيخ السعدي في تفسيره: (فقال لك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم: مقبحا فعل قومه، وشناعة ما عزموا عليه {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ} أي كيف تستحلون قتله، وهذا ذنبه وجرمه، أن يقول ربي الله، ولم يكن أيضا قولا مجردا عن البيان ولهذا قال: {وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} لأنه بينته اشتهرت عندهم اشتهارا علم به الصغير والكبير أي: فهذا لا يوجب قتله….. ، ثم قال لهم مقالة عقلية، تقنع كل عاقل بأي حال قدرت فقال: {وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم} أي موسى بين الأمرين إما كاذب في دعواه أو صادقا فيها فأن كان كاذبا فكذبه عليه وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر……. ، وإن كان صادقا وقد جاءكم بالبينات وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابا في الدنيا والآخرة، فإنه لابد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم.. وهذا من حسن عقله ولطف دفعه عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، وجعل الأمر دائر بين تلك الحالتين وعلى تقدير فقتله سفه وجهل منكم)؛ تفسير السعدي (360/4).
الوفقة السادسة: هناك أمور لابد من توفرها في المحتسب:
1. العلم: فيلزمه العلم بالمعروف والمنكر والتميز بينهما، والعلم بحال المأمور والعلم بوسائل الأمر والنهي وأساليبه وميادينه يقول عز وجل {قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
2. الرفق عند الأمر والنهي يقول عليه الصلاة والسلام: «إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلَّا زانه. ولا يُنزعُ من شيءٍ إلَّا شانه» الراوي: عائشة (المحدث: مسلم – المصدر: صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 2594، خلاصة حكم المحدث: صحيح).
3. الصبر وهذه وصية لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
4. التثبت وعدم الاستعجال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].
5. الصدق: ولابد من أن يكون آمر صادق مع نفسه ومع الناس، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 119].
الوقفة السابعة: عدم إنكار المنكر سبب لنزول العذاب يقول مؤمن آل فرعون: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، قال ابن كثير: (قال المؤمن محذرا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ}، أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}، أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء) تفسير ابن كثير (80/4).
وعدم إنكار المنكر سبب لنزول العذاب ويكون على صورتين:
• عموم العقاب.
• منع إجابة الدعاء فحين سألت زينب رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُر الخبثُ» (صحيح البخاري – الصفحة أو الرقم:7059)، وقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» (صحيح الجامع – الصفحة أو الرقم:7070)، يقول عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّ} [الأنفال: 25]، قال ابن عباس: (أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمّهم الله بالعذاب).
الوقفه الأخيرة: عليك بالتوكل: إن لتوكل فضل عظيم وأجر كبير في الدنيا والآخره فهذا مؤمن آل فرعون يقول في ختام حواره مع فرعون وقومه قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 44 -45]، التحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه، وليس لموسى فيه دخل.
وقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ}، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم، ويذكرون نصيحته، فيندمون حيث لا ينفع الندم، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا كثيرة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 44 -45]، دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، كقولهم: سها فسجد، أي: سجد لعلة سهوه، وسرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته، كما قدمناه مرارا. وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون التوكل على الله سببا للحفظ، والوقاية من السوء، جاء مبينا في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
فقد دلت هذه الآية الكريمة، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه، أي حفظه ونجاه، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكله على الله، وتفويضه أمره إليه.
وبعض العلماء يقول: نجاه الله منهم مع موسى وقومه، وبعضهم يقول: صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم، وكل هذا لا دليل عليه، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم، أي حفظه ونجاه منها. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} معناه: أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم، ورد العاقبة السيئة عليهم، فرد سوء مكرهم إليهم، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة، وكان فرعون وقومه هالكي في الدنيا والآخرة والبرزخ، تفسير أضواء البيان ص: 389.
فعلى الآمر والناهي والداعية والمعلم والأم والزوج وغيرهم.. الدعوة إلى الله والتوكل عليه وتفويض الأمر لله والإخلاص قبل ذلك فهذا مما ييسر دعوته وينفع بها، فلا تتكل على نفسك ولا جهدك وفوضي أمرك إلى الله وأكثري من الدعاء، فإن الله كريم عظيم ولا تيأس من رحمة الله، وكن واعي لما يحاك ضدك من المؤامرات لصدك عن دينك ومبادئك، فتوكل على الله واحرص على نشر الخير والنهي عن المنكر حتى تنجوا في الدنيا والآخرة.
العنود المحيسن – طريق الإسلام