تعالوا نتعرف على ذلك المخلوق العجيب ونعيد تعريفَه من خلال الوحي الذي نزل لهدايته.
فإذا نظرنا في أول خمس آيات نزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم= نجدها قد ذكرت هذا المخلوق مرتين ووصفته بأنه:
– من عَلَق (دلالةً على ضعفه)،
– وأن الله علمه ما لم يكن يعلم (دلالة على جهله).
فإذا استحضرنا هذه المعادلة (ضعف+ جهل) توقعنا النتيجة= افتقار، ولكن النتيجة كانت مفاجأة في الآية السادسة وهي= الطغيان!!!
– ولماذا هذه النتيجة العجيبة بالرغم من ضعفه وجهله؟
– الإجابة في الآية السابعة: لأنه رأى نفسَه مستغنيا عن الله جهلا منه وتجاهلا.
– وما الشيء الذي يجعل الإنسان يشعر بالاستغناء؟
– إحساسه الوهمي بالسيطرة التامة في جانبيّ العلم والقدرة (وتحديدا العلم لأنه الأساس)، أي عكس حقيقته تماما.
وفي هذا إشارة عجيبة إلى بدأ هذه السورة بكلمة (اقرأ) وانتصافها ب (إن الإنسان ليطغى) وختامها ب (اسجد واقترب)، وكأنها تصف مآلات القراءة الخاطئة والصحيحة؛ فقد يطغى الإنسان بقراءته مستغنيا بها، وقد يسجد لشدة معرفته لربه من خلال القراءة باسمه تعالى في الكون المنظور والكتاب المسطور.
وحتى لا يطغى الإنسان بشعوره الوهمي بالسيطرة على كل شيء= يرسل الله جنودَه من مرض وابتلاء وضعف وهِرم ونوم وجوع وموت ليذكروا الإنسان بحقيقته، فعندئذ يخضع لخالقه ويطلب رضاه ويلجأ إليه في دفع الضر ويقرأ ويتعلم شاكرا له على فضله وعطائه.
ولكن للأسف هذه الابتلاءات والأمراض قد لا تزيد البعض إلا طغيانا وقد يتجاهلها البعض ولا يتفكر فيها ولا يُحسن استقبال رسائلها، بل قد يرفض البعضُ ربطَ أي شيء من هذه الابتلاءات بأقدار الله تعالى، وذلك في ظني لأحد أمرين:
– طغيانا وتكبرا، ورفضا للاعتراف بقدرته لما يستلزم خضوعا لأوامره.
أو
– ظنا أن هذا يستلزم الاستسلام وعدم البحث عن حلول عملية ومواجهة هذه الابتلاءات طالما أنه من الله!!
فأما الصنف الأول فالله سيُرِيه الآيات في الدنيا والآخرة،
وأما الثاني فلا يفقه حقيقةَ الإسلام، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاء)، وقال بعضُ العلماء في هذا الحديث حثّ على تطلب الدواء الذي أنزله الله، بل وذكر البخاريّ هذا الحديث في كتاب الطب!!
فينبغي أن يعترف الإنسانُ بضعفه وعجزه وجهله بين يديّ مولاه ويطلب منه الفهم والعلم والقوة، ويقرأ ويتعلم -باسمه تعالى- في كونه المنظور مسترشدا بكتابه المسطور.
وهذا الاعتراف بضعف الإنسان وبقدرة خالقه: أمر جلل ومطلب عظيم، ولأجله يقدّر الله أمورا ويدبر أحداثا ليقرّ به الإنسان طالما لم يرضَ بتقرير الكتاب فليتعلم من خلال المصاب، ولقد ذكر لنا الوحيُ أن الله أمات رجلا مائةَ عام ثم أحياه ليقول: أعلم أنّ الله على كل شيء قدير.
د. أحمد عبد المنعم