قِصَّةٌ مِنَ الزَّمَنِ الْجَمِيلِ نَفْتَقِدُ أَحْدَاثَهَا فِي هَذَا الْوَاقِعِ الْأَلِيمِ بَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ السُّفَهَاءُ مِنْ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ.
تَدُورُ أَحْدَاثُ هَذِهِ الْقِصَّةِ بَيْنَ بَطَلِ مَعْرَكَةِ عَيْنِ جَالُوتَ “سَيْفِ الدِّينِ قُطُزَ” وَبَيْنَ سُلْطَانِ الْعُلَمَاءِ وَبَائِعِ الْمُلُوكِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
تَبْدَأُ الْقِصَّةُ عِنْدَمَا يُفَكِّرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ فِي فَرْضِ ضَرِيبَةٍ بَسِيطَةٍ عَلَى الشَّعْبِ
هَذِهِ الضَّرِيبَةُ لَيْسَتْ بَطَرًا وَفُجُورًا وَرَفَاهِيَةً لِلنِّظَامِ عَلَى حِسَابِ وَمُعَانَاةِ الشَّعْبِ
وَلَيْسَتْ لِتَجْهِيزِ الْمَهْرَجَانَاتِ وَلَا الْمُؤْتَمَرَاتِ الْكَاذِبَةِ وَلَا الْحَفْلَاتِ الرَّاقِصَةِ
وَلَيْسَتْ مِنْ أَجْلِ دَفْعِهَا لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ
بَلْ هِيَ مِنْ أَجْلِ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ الَّذِي سَيُدَافِعُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ هَجَمَاتِ الْمَغُولِ الَّذِينَ قَتَلُوا مَلَايِينَ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَبَاحُوا دِيَارَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ.
وَكَانَ بِإِمْكَانِ قُطُزَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَمَا يَفْعَلُ حُكَّامُ الْيَوْمَ وَيُصْدِرُ هَذَا الْقَرَارَ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى أَحَدٍ، فَالْعَدُوُّ يَقْتَرِبُ وَنَحْنُ فِي حَالَةِ حَرْبٍ وَلَا صَوْتَ يَعْلُو فَوْقَ صَوْتِ الْمَعْرَكَةِ.
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ الظُّرُوفِ الصَّعْبَةِ جَمَعَ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ الْأُمَرَاءَ وَالْعُلَمَاءَ لِيُشْرِكَهُمْ فِي هَذَا الْقَرَارِ الَّذِي سَيَسْمَحُ لَهُ بِفَرْضِ ضَرِيبَةٍ بَسِيطَةٍ عَلَى الشَّعْبِ، وَالْغَايَةُ كَمَا قُلْنَا تَجْهِيزُ جَيْشٍ يَرُدُّ بِهِ خَطَرَ الْغُزَاةِ الَّذِينَ اِجْتَاحُوا بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ..
وَفِي مُفَاجَأَةٍ لَمْ تَكُنْ فِي الْحُسْبَانِ رَفَضَ سُلْطَانُ الْعُلَمَاءِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا الْقَرَارَ الَّذِي يَصُبُّ فِي مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
وَبَعْدَ جِلْسَةِ حِوَارٍ وَمَشُورَةٍ وَافَقَ شَيْخُ الْعُلَمَاءِ بِأَنْ يَفْرِضَ الْحَاكِمُ ضَرِيبَةً بَسِيطَةً عَلَى الشَّعْبِ وَلَكِنْ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ.!
هَذَا الشَّرْطُ كَانَ بِأَنْ يَبِيعَ الْحَاكِمُ وَكُلُّ الْأُمَرَاءِ وَالْمَسْؤُولِينَ جَمِيعَ أَمْلَاكِهِمْ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ، فَإِذَا نَقَصَ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ، يَجْمَعُ مَا تَبَقَّى مِنَ الشَّعْبِ بِحُدُودٍ مُعِينَةٍ لَا تُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ مَعِيشَتَهُمْ.
قَبِلَ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ فَتْوَى الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَبَدَأَ بِنَفْسِهِ فَبَاعَ كُلَّ مَا يَمْلِكُ ثُمَّ أَمَرَ الْوُزَرَاءَ وَالْأُمَرَاءَ بِأَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، فَانْصَاعَ الْجَمِيعُ وَامْتَثَلُوا لِأَمْرِهِ، وَجُمِعَتِ الْأَمْوَالُ وَكَانَتْ كَافِيَةً لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَلَمْ تُفْرَضِ الضَّرِيبَةُ عَلَى الشَّعْبِ.
وَمَا إِنِ اِنْتَهَى قُطُزُ مِنْ تَجْهِيزِ الْجَيْشِ، سَارَ بِهِ مِنْ مِنْطَقَةِ الصَّالِحِيَّةِ شَرْقِ مِصْرَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى سَهْلِ عَيْنِ جَالُوتَ الَّذِي يَقَعُ تَقْرِيبًا بَيْنَ مَدِينَةِ بَيْسَانَ شَمَالًا وَمَدِينَةِ نَابْلُسَ جَنُوبًا فِي فِلَسْطِينَ.
وَهُنَاكَ تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ وَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَطَاعَ الْآلَافُ مِنَ الْمَغُولِ الْهَرَبَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ وَاتَّجَهُوا قُرْبَ بَيْسَانَ، وَعِنْدَهَا وَقَعَتِ الْمَعْرَكَةُ الْحَاسِمَةُ، وَانْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ اِنْتِصَارًا عَظِيمًا، وَأُبِيدَ جَيْشُ الْمَغُولِ بِأَكْمَلِهِ.
فَكَانَتْ بَرَكَةُ الشُّورَى وَامْتِثَالُ الْحَاكِمِ لِأَوَامِرِ الْعُلَمَاءِ أَحَدَ أَسْبَابِ وَحْدَةِ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ وَتَمَاسُكِهِمْ فِي مُوَاجَهَةِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ بَعْدَ أَنْ قَالَ الْجَمِيعُ بِأَنَّ جَيْشَ الْمَغُولِ لَا يُقْهَرُ.
فَتَفَكَّرُوا وَتَدَبَّرُوا وَقَارِنُوا وَعَايِنُوا وَأَسْقِطُوا كَمَا تَشَاؤُونَ عَلَى هَذَا الْوَاقِعِ الَّذِي نَعِيشُهُ الْآنَ وَبَيْنَ وَاقِعِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا.