نشر الإعلامي في قناة الجزيرة فيصل القاسم منشورًا قال فيه: أبو العلاء المعري: أنا أحب أولادي حباً جماً، لهذا لم أنجب أولاداً، بل تركتهم يستمتعون في نعمة العدم.

الرد: هذه العبارات التي يكرر فيصل القاسم نشرها تثير الاستغراب أكثر مما تثير الإعجاب.
الرجل متزوج، ولديه أبناء، وتبدو حياته الأسرية مستقرة وسعيدة (كما يظهر لنا).
السؤال: ما الدافع إلى بث أفكار فلسفية عدَمية ومتشائمة في فضاء يتلقاه الشباب، وهم الفئة الأكثر هشاشة أمام هذا النوع من الطروحات؟
القول المنسور لأبي العلاء المعري (بغض النظر عن مدى صحته) ليس مجرد خاطرة أدبية بل هو تعبيرٌ مكثف عن “العدمية الوجودية” في أقسى صورها، وهي الفلسفة التي ترى الوجود عبئاً والعدم خلاصاً.
هذه المقولة التي تتلحف بلباس “الرحمة” والشفقة على الأبناء من ويلات الوجود، تخفي خلفها تهافتاً منطقياً مريعاً، وفراغاً روحياً قاتلاً، ونظرةً ماديةً قاصرةً تجعل من الألم معياراً وحيداً لقيمة الحياة.
الحياة ليست “جناية” يرتكبها الآباء، بل هي “فرصة” يمنحها الخالق، و”نعمة العدم” التي يتحدث عنها المعري هي مغالطة لغوية وعقلية.
يقول: “تركتهم يستمتعون في نعمة العدم”، وهنا نقع في مغالطة “تجسيد العدم” أو منحه صفات الوجود.
لكي يتحقق “الاستمتاع” أو “النعيم”، لا بد من وجود “ذات” مدركة تشعر بهذا النعيم.
العدم -بالمعنى الفلسفي واللغوي- هو غياب الذات والوعي والشعور.
فكيف يمكن لمن “ليس موجوداً” أن “يستمتع”؟
هذه محاولة بائسة لمنح العدم قيمة إيجابية، في حين أن العدم هو سلبٌ مطلق لكل قيمة، بما فيها النعيم.
وصف العدم بأنه “نعمة” هو قلب للحقائق؛ فالنعمة هي شيء يُعطى لمن يمكنه الانتفاع به.
يتحدث كاتب النص (سواء المعري أو غيره) عن “أولاده” وكأنهم كائنات موجودة في “غرفة انتظار” تسمى العدم، وهو بقراره هذا قد “أبقاهم” هناك. وهذا تصور خرافي؛ فالعدم ليس مكاناً للسكن، بل هو “اللاشيء”.
مغالطة “الشفقة على المعدوم”: الشفقة عاطفة نُبديها تجاه كائن يتألم أو يُحتمل أن يتألم.
أما توجيه الشفقة نحو “من لا وجود له” فهو نوع من العبث الفكري.
كاتب هذا النص يسقط معاناته النفسية وتصوره السوداوي عن الحياة على كائنات وهمية، ثم يمنُّ عليها بأنه أنقذها من الوجود.
إن هذا المنطق يشبه من يقول: “أنا أحب صديقي جداً لدرجة أنني أتمنى ألا يولد أبداً لكي لا يحزن يوماً”.
هنا، الحب يُفضي إلى إلغاء “المحبوب” من الأساس، وهو تناقض يجعل المحبة فعلاً تدميرياً لا بنائياً.
ينطلق هذا الفكر العدمي من “مركزية الألم”، أي اعتبار أن الألم هو الشر المطلق الذي يجب تجنبه بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو إلغاء الوجود نفسه.
أما في الإسلام، فإن للنظرة للحياة والوجود أبعاداً أسمى بكثير:
الوجود كفعل كرم إلهي: إن الله عز وجل هو “الموجد”، ومن أسمائه “الوهاب” و”الرزاق”. الوجود في حد ذاته هو “خير” لأنه خروج من ظلمة اللا شيء إلى نور الشهود. الله لم يخلقنا ليعذبنا، بل ليرحمنا؛ قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ [النساء: 147].
الغاية من الوجود: إنكار الكاتب لقيمة الوجود ينبع من غياب “الغاية”. إذا كانت الحياة مجرد رحلة بيولوجية من المهد إلى اللحد تتخللها الأوجاع، فقد يبدو العدم جذاباً. لكن الإسلام يقرر أن الحياة “قنطرة” و”ميدان سباق”؛ قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]. الوجود هو الفرصة الوحيدة للوصول إلى النعيم المقيم.
الحكمة من الألم: الألم في الرؤية الإسلامية ليس عبثاً، بل هو وسيلة للتزكية والتربية ورفع الدرجات. الملحد أو العدمي يرى في صراخ الطفل إشكالاً وجودياً، بينما يراه المؤمن جزءاً من منظومة “الابتلاء” التي تصقل النفس وتعدها لما هو أعظم.
تكريم الإنسان: الوجود الإنساني ليس “غلطة” أو “جناية”، بل هو أرقى أنواع الوجود؛ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70].
إن قرار عدم الإنجاب بناءً على “بؤس الحياة” هو طعن في حكمة الخالق الذي قدّر أن يكون الإنسان خليفة في الأرض.
أبو العلاء المعري، الملقب بـ “رهين المحبسين”، عاش تجربة نفسية قاسية، من فقد البصر إلى العزلة الاختيارية، مما صبغ شعره وفلسفته بالسواد. إن مقولته هي “صرخة ألم” وليست “قاعدة علمية”.
في المقابل، نجد الأنبياء عليهم السلام -وهم أكثر الناس بلاءً ومعاناة- كانوا أكثر الناس حرصاً على استمرار الحياة ودعاءً بالذرية الصالحة. زكريا عليه السلام نادى ربه: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89]. إبراهيم عليه السلام دعا: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: 100].
لماذا طلبوا الذرية وهم يعلمون أن الدنيا دار كدر؟
لأنهم أدركوا أن الحياة فرصة لـ “عمارة الأرض” و”عبادة الله”.
لأنهم علموا أن الولد الصالح هو امتداد للخير والنور في هذا العالم.
لأنهم لم يكونوا “عدميين” ينظرون تحت أقدامهم، بل كانوا “ربانيين” ينظرون إلى الآخرة.
إن الفرق بين عبارة المعري وبين فعل وقول الأنبياء عليهم السلام هو الفرق بين “اليأس الذي ينكفئ على ذاته” وبين “الأمل الذي يضيء للعالمين”.
المعري يرى أن الأب الذي ينجب هو “جانٍ” على ولده، ونحن نقول بلسان الحق: إن من يحرم كائناً من فرصة الوجود والتعرف على خالقه والتمتع بآيات كونه والوصول إلى جنته، هو الذي يرتكب الجناية الفلسفية الكبرى.
فلسفة هذا النص هي فلسفة “هروبية”.
بدلاً من العمل على جعل الحياة أفضل للأبناء، أو تربيتهم على الصبر والجلد والإيمان، يختار “إلغاءهم”.
هذا ينم عن عجز في تحمل مسؤولية الحياة وبناء المستقبل.
مقارنة بين “عدم المعري” و”وجود المؤمن”:
في “عدم المعري”: لا ألم، ولكن لا لذة، لا وعي، لا معنى، لا ذكرى، لا شيء.
في “وجود المؤمن”: ألمٌ عابر، ولذةٌ مشكورة، ووعيٌ بالخالق، وعملٌ صالح، وخلودٌ في جنات النعيم.
فأي العقلين أهدى سبيلاً؟
عقل يرى في “الصفر” نجاحاً، أم عقل يرى في “الامتحان” طريقاً للكمال؟
يقول: “أنا أحب أولادي حباً جماً”، وهذه كلمة حق أُريد بها باطل. الحب الحقيقي يقتضي الوجود. الأم تحب طفلها وهو في بطنها، وتتحمل آلام المخاض “ليخرج للوجود”.
الخلاصة: الحياة ليست جناية، والعدم ليس نعيماً.

